إيران ضبطت الجبهات… وتتجنّب خسارة لبنان!

جورج حايك
جورج حايك

يعرف القاصي والداني أن قرار الحرب والسلم ليس لدى “حزب الله” بل يتلقى التوجيهات من مرجعيته الايرانية، ومن يظن أن الأمور أفلتت من عقالها في جبهة الجنوب اللبناني، مخطئ حتماً، ولو بدا منسوب التصعيد كبيراً والصواريخ تتساقط ما وراء الخطوط الحمر أحياناً، فالحسابات الاستراتيجية لكل أطراف الصراع تفضّل أن تبقى الأمور مضبوطة ولا تنجر إلى حرب واسعة، وهذه رغبة الولايات المتحدة الأميركية وإيران بالدرجة الأولى، واسرائيل ليست بعيدة عن هذه الأجواء على الرغم من تهديدات قادتها وحشودها العسكرية على الحدود اللبنانية الاسرائيلية.

من المؤكّد أن براغماتية إيران مرتفعة جداً في هذه الأيام، وعلى الرغم من أنها تعتمد سياسة “على حافة الهاوية” إلا أنها “تزين خطواتها بميزان الجوهرجي” لأنها تعلم أن أي خطأ أو خطوة غير محسوبة قد تدفع ثمنها غالياً، بل قد تفقدها كل مكتسباتها، لذلك إتبّعت منذ بداية حرب غزة أسلوب “غسل يديها” من افتعال الحرب مع اسرائيل بواسطة “حماس”، وأوعزت الى أذرعها العسكرية مشاغلة اسرائيل والولايات المتحدة من لبنان إلى البحر الأحمر، في ما أطلقت عليه تسمية “جبهات المساندة”، إلا أن هذه المشاغلة كادت أن تورّطها أحياناً، ولا سيما عندما استهدفت الميليشيات العراقية التابعة لها القاعدة العسكرية الأميركية في الأردن، فتلقت تهديدات جديّة من واشنطن بإحتمال قصف الداخل الايراني.

ولفتت مصادر اعلامية مقرّبة من البيت الأبيض الى أن إيران تعاملت مع التهديدات الأميركية بجدية كبيرة، إذ أرسلت ديبلوماسيين ومسؤولين عسكريين كباراً للقاء قادة الأذرع العسكرية في العراق وسوريا، وطلبت منهم بصرامة كبح الهجمات على القوات الأميركية في المنطقة. وقد اضطر قائد “فيلق القدس” الايراني إسماعيل قاآني الى زيارة العراق بنفسه لتهدئة “حزب الله” العراقي وحركة “النجباء”. ولم تقع أي هجمات على القوات الأميركية في العراق وسوريا منذ 4 شباط الحالي، مقارنة بأكثر من 20 هجوماً في الأسبوعين اللذين سبقا زيارة قاآني. وقد أبلغهم القائد الايراني أن أي خطأ يؤدي إلى قتل جنود أميركيين يُهدد برد شديد، بما في ذلك توجيه ضربات إلى كبار قادتهم، وتدمير البنية التحتية الرئيسية، أو حتى الانتقام المباشر من إيران.

أما جبهة جنوب لبنان فتتمتع بخصوصية لا تشبه جبهات المساندة الأخرى، ومنذ بداية حرب غزة، اتسم رد فعل “حزب الله” بالضوابط وما يُسمّى قواعد الاشتباك، وذلك بناء على توجيهات القيادة الايرانية. وحتى اليوم، نجح “الحزب” في تحقيق توازن دقيق يتمثل في الحفاظ على مستوى معين من التصعيد مع إسرائيل مع تجنب حرب مدمّرة شاملة يمكن أن تنعكس سلباً على “الحزب” في لبنان. لكن المصادر الاعلامية في واشنطن لفتت إلى أن هذا النهج شكّل دائماً مخاطر كبيرة، بحيث لم تكن الادارة الأميركية واثقة من أن اسرائيل ستلتزم بهذا السقف الذي يلتزم به “الحزب”. وتشير المصادر إلى أن الموفد الأميركي آموس هوكشتاين والديبلوماسية الغربية النشيطة تجاه لبنان واسرائيل أديا دوراً ايجابياً لمنع توسّع الحرب، بإنتظار أن يتم البحث عن ترتيبات جديدة على طول الحدود اللبنانية الاسرائيلية في النهاية، وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن عملية “حماس”، سواء علمت بها إيران و”الحزب” مسبقاً أو لم يعلما، فإنها دفعت الأخير إلى وضع شديد التقلب سيؤدي به إلى نتائج ليست في مصلحته ومختلفة عما كان عليه قبل 7 تشرين الأول 2023.

من جهتها، تعمل اسرائيل على استغلال الصفعة التي تعرّضت لها في عملية “طوفان الأقصى”، لتبعد الخطر عن حدودها الجنوبية المتمثّلة في “حماس” وحدودها الشمالية المتمثّلة في “حزب الله”، وبالتالي لن تجد أفضل من هذه الفرصة لإقصاء النفوذ الايراني المتربّص بها. وترى المصادر القريبة من البيت الأبيض أن اسرائيل مستعدة لكل شيء من أجل تنفيذ القرار 1701 وتهديداتها جديّة، وهذا ما حرص هوكشتاين ووزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا على إبلاغه للمسؤولين الرسميين اللبنانيين، لكن قد يستغرب البعض ما كشفه ديبلوماسيون أميركيون للمصادر الاعلامية بأن اسرائيل، على الرغم من وجود حكومة متطرفة، لا تريد الحرب مع لبنان إنما إبعاد “الحزب” فقط، وهي تعرف أن كلفة الحرب ستكون باهظة على الجانبين الاسرائيلي واللبناني، وبالتالي هي تعمل وفق مبدأ العصا والجزرة مع لبنان، وغالباً ما يقوم وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت بالتلويح باستخدام العصا، إلا أن تهديداته مدروسة لإخضاع عدوّته إيران وتابعها “حزب الله” للمفاوضات والتنازلات أكثر من كونها إشارة إلى حرب بريّة وشيكة.

لا شك في أن لا إجماع في الحكومة الاسرائيلية على قرار الحرب ضد لبنان، إلا أن هناك إشكالية واقعية وحقيقية تتمثّل في إعادة سكان الجليل إلى المنطقة الحدودية، وهذا ما تعتبره المصادر الاعلامية في واشنطن ورقة في يد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لإجبار “الحزب” على تطبيق القرار 1701، أو على الأقل الابتعاد 8 كيلومترات نحو نهر الليطاني. في المقابل، لا يزال “الحزب” يرفض مناقشة أية تفاصيل حول ترتيبات حدودية حتى الآن، بعدما ربط ذلك بنهاية حرب غزة. وتعتبر المصادر أن اسرائيل اطمأنت، على الرغم من رفض “الحزب” الكلام في الوقت الحاضر عن التراجع 8 كيلومترات، الى أنه مستعد للتفاوض بعد انتهاء حرب غزة، وتقضي خطة نتنياهو بتدمير البنية التحتية العسكرية في الوقت الضائع، بهدف شنّ حرب واسعة إذا لمس أن “الحزب” يراوغ ويحاول أن يكسب وقتاً. ومع ذلك، تنقل المصادر إرتياح الادارة الأميركية نتيجة وعود إيرانية بأن الحرب بمجرد أن تنتهي، ستبدأ المفاوضات بصورة جدية.

ما يحصل اليوم بين إسرائيل و”الحزب” لا يمكن أن ينتهي إلا بإحدى طريقتين: إما أن يكون انسحاباً متفاوضاً عليه شمال نهر الليطاني، أو على الأقل إلى منطقة عازلة بطول 8 كيلومترات شمال الخط الأزرق، وإدخال الجيش اللبناني و”اليونيفيل” وربما مراقبين دوليين، أو حرباً واسعة النطاق. وتوضح المصادر أن الجانبين لا يريدان حرباً، خلافاً لما يعتقد الكثيرون ولما يحصل في الميدان، بل ان هناك رغبة، في حل تفاوضي، ولو اختلفا على التوقيت.

دفع “الحزب” الكثير من مصداقية شعاراته ووعوده نتيجة الخيارات الايرانية منذ بدء حرب غزة حتى اليوم، وفق المصادر الاعلامية في البيت الأبيض، وليس سراً إذا كشفنا أن “الحزب” يعيد النظر في معادلة “وحدة الساحات”، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى حرب واسعة نحو لبنان تدمر البلد إلى الحد الذي يستنهض الشارع اللبناني ضد الدور الذي يلعبه “الحزب”.

وكشفت المصادر أيضاً أن إيران حذّرت “الحزب” منذ بداية حرب غزة من إعطاء إسرائيل سبباً لشن حرب واسعة النطاق على طول الحدود الاسرائيلية اللبنانية، خشية أن تخاطر بالمكاسب التي تعتقد أنها حققتها في المنطقة منذ عملية “طوفان الأقصى” وأهمها نسف جهود التطبيع بين اسرائيل والسعودية. ولا تزال الخطوط الحمر الايرانية سارية حيال “الحزب”، وهذا ما شكّل غطاء آمناً للبنان حتى اليوم على الرغم من التصعيد المتمادي على الجبهة الجنوبية.

واللافت أن المقترحات الأميركية والفرنسية لتسوية حدودية بين اسرائيل ولبنان تبدو قابلة للنقاش لدى “الحزب” بتشجيع إيراني، ولا تستبعد المصادر الاعلامية أن تقوم اسرائيل بتقديم انتصار صوري لـ”الحزب” ليُقنع بيئته بتراجعه 8 كيلومترات نحو نهر الليطاني، ووضع حد للخطر الذي يتهدد مستوطناتها الشمالية.

في المحصلة يستبعد بعض الديبلوماسيين الأميركيين الحرب في لبنان لأن الأطراف المعنيّة غير متحمّسة لها، وما يحصل في الميدان ليس إلا تقطيعاً للوقت الضائع حتى تنتهي حرب غزة، وتبدأ المفاوضات الجديّة حول تطبيق القرار 1701، الذي لا مفرّ منه، وهذا ما تُدركه إيران و”الحزب”.

شارك المقال