“الحزب” في الفخ… كيف الخلاص؟

أنطوني جعجع

للمرة الأولى منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري يجد “حزب الله” نفسه في عزلة جدية، مسَّلِماً في كواليسه ومجالسه الخاصة بأنه ليس في وضع مريح لا عسكرياً ولا سياسياً ولا شعبياً، وبأن ما اعتبرها حرب “اسناد” في “الثامن من أكتوبر” لم تكن أكثر من فخ لا يستطيع البقاء فيه مستنزَفاً ولا الخروج منه متعافياً.

وليس سراً أن “حزب الله” عالق في أربع زوايا محرجة، الأولى أنه دخل الحرب رداً على اعتداء اسرائيلي استهدف غزة وليس لبنان، وهذا ما جرّده من مبرراته اللبنانية المحض، والثانية أنه أعلن الحرب منفرداً من دون أي غطاء رسمي أو شعبي أو وطني وهذا ما جرّده مما يمكن أن يحمي ظهره ويبرر سلاحه، والثالثة أنه منصاع تماماً للتعليمات الايرانية المتأرجحة بين اللاحرب واللاهدنة وهذا ما جرّده من المبادرة وحرية الحركة والقدرة على صنع القرار، والرابعة أنه فوجئ بقيادة يمينية اسرائيلية لا يلجمها عامل الزمن، ولا تردعها ضغوط المجتمع الدولي، ولا تتردد في ارتكاب المجازر من دون أن يرف لها جفن، ولا تتهرب من فتح أكثر من جبهة في وقت واحد، وهذا ما جرّده من الكفاءة الاستخبارية من جهة والقدرة على التكهن والاستشفاف من جهة أخرى.

وثمة زاوية خامسة لم يتنبه لها “حزب الله” وكذلك ايران، وتتمثل في أن اسرائيل تملك سلاحين ماضيين يمنعانها من “السقوط العظيم” وهما أولاً دعم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي المتخوف من تصاعد الأصوليات الايرانية والاسلامية في المنطقة، وثانياً السلاح النووي المتأهب في الترسانات الاسرائيلية.

وأكثر من ذلك، لم يتنبه “حزب الله” الى أن اسرائيل كانت بعد “حرب تموز” تتعلم من أخطائها وتتبنى نوعاً جديداً من الحروب التقنية وليس التقليدية على حدودها الشمالية، بينما كان حسن نصر الله منشغلاً بنصرة بشار الأسد المحاصر حتى الاختناق، والمشروع الايراني في سوريا والعراق واليمن وغزة، وبالسيطرة على مفاصل الحكم في لبنان، معتقداً أن التكتيك الحربي الذي استخدمه في حرب العام ٢٠٠٦ يصلح لأي حرب جديدة قد تقع مع اسرائيل.

ويذهب محلل عسكري بعيداً في قراءته لما يدور في الجنوب، لافتاً الى أن “حزب الله” لم يفرّق بين رئيس الوزراء الاسرائيلي في “حرب تموز” ايهود اولمرت الوسطي الى حد ما، ورئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو المتطرف الى حد كبير، وأنه فوجئ بأمرين أساسيين: أن تل أبيب لم تعتبر تحرير أسراها أولوية تتقدم على التخلص من “حماس”، معتبرة أمن اسرائيل أهم من حياة حفنة من الأسرى، وأن المجتمع اليهودي في معظمه التف حول قيادته معتبراً أنها تخوض حرب وجود وحدود دفعة واحدة.

ولعل أكثر ما صدم “محور الممانعة” ظهور استطلاع للرأي في اسرائيل يشير الى أن أكثر من سبعين في المئة من الاسرائيليين يؤيدون حرباً على الجبهة اللبنانية الى جانب ظهور تكتل عربي – دولي يدفع في اتجاه سحب “حزب الله” من الخط الأزرق بدل العمل جدياً لسحب اسرائيل من شبعا وتلال كفرشوبا ووقف اطلاق النار في غزة.

وفي قراءة تسربت من دوائر المراقبين في ايران، يتبين أن ما فعله “حزب الله” في الجنوب خلال مدة زمنية لم يتوقع أيضاً أن تطول الى هذا الحد، لم يخدم حركة “حماس” التي باتت في وضع يشبه وضع ياسر عرفات في بيروت في العام ١٩٨٢، ولم يمنع اسرائيل من اقتحام غزة والسعي الى احتلالها مجدداً، ولم يثبت وجود توازن استخباري أو عسكري أو حتى توازن رعب طالما كان يتسلح به لتبرير سلاحه، ولم ينجح في اقناع المجتمع اللبناني بجدوى ما يفعله في الجنوب أو بأحقيته أو بقدسيته فلم يلقَ من الممانعين الا التأييد الشفوي العقيم، ومن الحلفاء ما يشبه فك الارتباط على غرار ما فعله “التيار الوطني الحر” أخيراً.

وتضيف القراءة: ان “حزب الله” لا يجد طريقة مقبولة لوقف تورطه في الحرب لا تكون قراراً بوقف اطلاق النار في غزة أو باطلاق الأسرى، بعدما أيقن أن “حماس” لن تستطيع الصمود أكثر في غزة، وأن اسرائيل لن توقف الحرب قبل اعادة القطاع الى حدود السابع من حزيران، وقبل تطبيق القرار ١٧٠١ سواء بالحسنى أو بالقوة، وأن ايران التي وجدت نفسها في مواجهة مؤجلة مع الترسانة الأميركية لا تملك حتى الآن أي ورقة رابحة يمكن أن تذهب بها الى أي مفاوضات وازنة مع المجتمع الدولي، خصوصاً بعدما تمكن العرب من انتزاع المبادرة واستعادة الورقة الفلسطينية المصادرة.

ويكشف مصدر مقرب من قوى الممانعة أن نسبة الخرق الاسرائيلي في المنظومة الأمنية الايرانية وصلت الى حد جعلت كل مسؤول وكل عنصر في “حزب الله” و”الحرس الثوري” هدفاً سهلاً ومضموناً، وأثارت موجة من الشكوك المتبادلة التي تنظر الى الآخر على أنه مشبوه محتمل، وهذا ما ظهر أخيراً في العلاقة بين ايران ونظام بشار الأسد الذي تهرب من المساءلات الايرانية الى اتهام أبراج المراقبة البريطانية على الحدود الشرقية مع لبنان بتسهيل عمليات الاغتيال في كل من سوريا ولبنان.

ولا تستبعد مصادر ديبلوماسية أن يكون الاتهام السوري رسالة تحذير الى لندن المتورطة في مواجهات يومية مع الحوثيين في اليمن، ومحاولة لحرق أوراق قائد الجيش العماد جوزيف عون بعدما تقدم اسمه في سوق الرئاسة على سليمان فرنجية، وبعدما تقدم الصفوف في أي حل يتعلق بتطبيق القرار ١٧٠١، وبعدما برزت نيات دولية بتسليح الجيش وتحويله الى قوة ضارية قادرة على ضبط الخط الأزرق والحد من نفوذ “حزب الله”، وضبط الحدود الشرقية ومنع أعمال التهريب والتسليح.

وقد يكون في هذه القراءة بعض المبالغة في وقت يصر حسن نصر الله على أن ما يفعله في الجنوب هو قرار صائب لا بل قرار شبه الهي سيقود حتماً الى النصر، محاولاً أولاً أن يقنع الحليف قبل الخصم بأن ما يفعله هو حرب استباقية من جهة وجهادية من أجل القدس من جهة ثانية، ومتعهداً بناء ما دمرته اسرائيل تماماً كما فعل بعد “حرب تموز”.

لكن كل ذلك لم يحرك الكثير في وجدان الرأي العام اللبناني المنقسم الى قسمين، قسم يعتبر أنه قدم الكثير من أجل فلسطين وقسم يعتبر أنه تكبد الكثير من أجل فلسطين، اضافة الى أنهما يتفقان على أن ثلث الجنوب بات مهدماً كلياً أو جزئياً، وأن كل الجنوب لم يعد آمناً للسكن، وأن سكانه باتوا نازحين في أرضهم كما هم السوريون في أرض سواهم، متسائلين: “اذا كان ما يجري مجرد مناوشات، ترى كيف ستكون عليه الحرب الشاملة؟”.

وسط هذا المشهد، يتفق المراقبون على أن “حزب الله” لم يكن يعلم أيضاً هذه المرة، وأوقع رجاله وبيئته في حقل ألغام لا يعرف كيف يخرج منه سالماً، وحشر حلفاءه المسيحيين في زوايا خانقة أحرجتهم فأخرجتهم، وفشل في جر السنة الى جبهة تعنيهم انسانياً وليس عسكرياً، وأثبت عملياً ومجاهرة أنه جيش ايراني في لبنان وجيش لبناني في ايران.

حتى الآن لا تزال أميركا تلجم الجموح الاسرائيلي الذي يبدو مصمماً على خوض آخر حروب الدولة العبرية التي بدأت تعترف بأن ما قبل “السابع من أكتوبر” لم يعد مقبولاً أو قابلاً للتهاون والاستخفاف، وهو لجم غير مضمون في حال رأى الرئيس جو بايدن قبيل الانتخابات الرئاسية أنه لا يستطيع البقاء في البيت الأبيض في ظل حليفين جريحين واحد في أوروبا هو أوكرانيا وواحد في الشرق الأوسط هو اسرائيل.

ويختم المراقبون: لقد بات “حزب الله” في موقع من يعلم هذه المرة ولو متأخراً، لكن ما لا يعلمه هو المخرج الذي يمكن أن يخرج منه محتفظاً بقوة معنوية على الأقل تمكنه من ترميم تحالفاته أو استعادتها واستكمال ما بدأه قبل الحرب أي الانفلاش والتحكم، والنظر في وجوه اللبنانيين من دون اعتبار ما جرى في الجنوب “عملاً مجيداً”.

شارك المقال