لبنان وضرورة صوت الاعتدال

بروفيسور خليل حسين

في علم الاجتماع السياسي ثمة ثوابت تحكم العلاقات الاجتماعية وتحدد الأطر العامة لمظاهر الحكم فيها، وما تحتاجه من رؤى وبرامج وقيادات. وفي لبنان المنهك بمشكلاته وتناقضاته الداخلية بدءاً من السياسية والاقتصادية وصولاً الى الطائفية، وتشابكها مع المحاور الخارجية، يبدو المشهد أكثر تعقيداً، اذ يتطلب الأمر جوانب أكثر دقة لادارة المشهد السياسي، حيث التناقضات بلغت مستويات غير مسبوقة في مطلق نظام سياسي اجتماعي في المنطقة العربية.

ويمتد اليوم مشهد الفراغات في مختلف مؤسسات النظام، وتشيع مظاهر الحاجة الى قيادات سياسية تتمتع بالقدرة على استيعاب مشكلات مجتمعاتها، كما القدرة على قيادتها نحو بر الأمان، بعدما شاع التشتت والضعف، وبانت مظاهر الضياع في بناها الاجتماعية والسياسية. وما عزز هذه المظاهر خيارات التطرف التي أخذت بعضها الى مواقف وتحالفات غير مسبوقة، ومن بينها الطائفة الاسلامية السنية، التي تبدو اليوم الأكثر حاجة الى إعادة قراءة دقيقة لواقعها ولكيفية التعامل مع البيئة الموجودة فيها.

ان التدقيق في واقع العمل السياسي في لبنان، يظهر الحاجة القوية الى بناء صوت معتدل، قادر على سماع الآخر وإيجاد المساحات المشتركة وردم الهوات، والتكيف مع الوقائع التي تتطلب المزيد من الجهد للملمة ما مزقته الظروف خلال العقدين المنصرمين، وخصوصاً مع تداعيات اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما تراكم من تناقضات ومظاهر نزاعات خطرة، وصلت الى حد الصدام المدمر لولا نهج بعض القيادات، ومن بينها الرئيس سعد الحريري الذي مثل صوت الاعتدال لدى الطائفة السنية، والتي هي بحاجة اليوم الى اعادة تموضع جديد، ونسج شبكة أمان سياسية داخلية وخارجية، تعيد دورها الداخلي والخارجي المفترض، لا سيما وأنها كانت ولا زالت تشكل الركيزة الأساسية لاستقرار النظام، وإدارة احتياجاته المتعددة والمتنوعة.

وفي ظل تشرذم بعض مظاهر القوة فيها، هي بأمس الحاجة اليوم الى اعادة اطلاق صوت الاعتدال فكراً وممارسة، عبر عودة الرئيس سعد الحريري لتعبئة دوره الطبيعي المفترض في الواقع السياسي اللبناني، لا سيما وأن تجربة ابتعاده عن العمل السياسي في الفترة السابقة، بيّنت حاجة لبنان والطائفة التي يمثلها الى قدراته، لاعادة الأوضاع الى بر الأمان.

ربما الظروف التي دعت الرئيس الحريري الى الابتعاد عن المشهد السياسي، تطلبت بعض الغياب لعدم الاحراج والغوص في متاهات السياسات الللبنانية التي تزيد من مواقف التطرف وبالتالي التشرذم، فيما اليوم وفي تقويم موضوعي لتداعيات الابتعاد السياسي، تظهر الحاجة الى اعادة التموضع السياسي مجدداً، واطلاقه بكفاءة عالية، خصوصاً وأن ظروف لبنان حالياً هي الأكثر حساسية والأشد حاجة الى قيادات تمتلك مساحات واسعة في بيئتها.

ان عودة الظهور الاجتماعي للرئيس سعد الحريري مؤخراً، والتي تخللتها مواقف سياسية عامة، أعادت اللحمة الى البيئة التي يمثلها، والتي تبحث وتصر على عودته وقيامه بدوره الذي من الصعب أن يملأه أحد، لا سيما وأن هذه الدلالات والمؤشرات ظهرت أيضاً ملياً أمام الدول التي تشكل بعداً استراتيجياً لبيئته ومحبيه ومريديه، ما يشجع ويعزز عودته الآمنة والمطلوبة بقوة حالياً.

لقد تبين بفعل الممارسة والوقائع السابقة التي مرّ بها لبنان، الحاجة الماسة الى صوت الاعتدال في بيئاته السياسية والطائفية المختلفة، وخصوصاً في البيئات التي تشكل دعامة رئيسة للكيان اللبناني وموقعه المفترض، الذي شغله سابقاً، حيث علا صوت الاعتدال على صوت التطرف؛ وهو المطلوب اليوم في وقت تُرسم فيه خرائط جديدة للمنطقة، وتوزع فيها الأدوار والمواقع.

شارك المقال