لبنان… قضايا عادلة وطروح فاشلة!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

ليس هناك أسوأ من أن تكون محامياً فاشلاً لقضية عادلة. هذا هو حال اللبنانيين للأسف، أو لنقل – تجميلاً للواقع – الأطراف السياسية اللبنانية سواء من تسمّي نفسها سيادية حرة، أو تلك التي تحتكر لنفسها المقاومة والتحرير، أو حتى تلك التي تنادي بالعدالة الاجتماعية.

فقضايا اللبنانيين وإهتماماتهم جلَّها عادلة بل من أعدل القضايا على الاطلاق وأشرفها وأحقها، فهل هناك أعدل من المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال؟ وهل هناك أشرف من مقاومة الاحتلال وصلافته وعنجهيته؟ وهل هناك أحق من المطالبة بالعدالة الاجتماعية؟ ومع ذلك ترى هذه القضايا الجامعة وقد تحولت إلى قضايا خلافية بين اللبنانيين قد تصل حدَّتها حد الاستعداد للذهاب الى الحرب الأهلية مرة ثانية – ونحن نعيش ذكرى الحرب الأولى هذه الأيام – من أجلها، مع أنها تمس حياتهم اليومية ومستقبلهم، ما يطرح السؤال عن الأسباب الكامنة وراء هذه الخلافات.

إذا أمعنا التفكير في هذه الأسباب فقد لا نجد في الواقع تفسيراً أقرب إلى المنطق من أن الخلل قد يكون في طريقة طرح هذه القضايا على الناس وخلفياتها. فالقوى التي تدَّعي الحرية والسيادة والاستقلال مثلاً – أو لنقل أغلبها على الأقل – كانت ولا تزال تنطلق من خلفيات سياسية وطائفية في طرحها للموضوع وليس من منطلقات وطنية، على قاعدة أننا نحن الأساس في هذا البلد وعلى الآخرين الالتحاق بنا وبشروطنا ولو على حساب المواطنية الصحيحة التي تضمن حقوق جميع مكونات هذا الوطن، وهذا ما تجلى مع بداية نهاية قوى 14 آذار عندما إنبرى البعض وبسبب – بحسب ما كنا نعتقد – المزايدات الداخلية بين الفرقاء المسيحيين وفي سبيل البحث عن زيادة في الشعبية من هنا وهناك، إلى القول انه نجح في جر الفريق الآخر إلى موقعه السيادي والسياسي، على الرغم من أن حالة 14 آذار نفسها كانت نتيجة دفع هذا “الفريق الآخر” ثمناً باهظاً من خيرة رجاله جراء موقفه السيادي المعروف.

هذا القول ما لبث أن أعقبته ممارسات ومواقف طائفية ومذهبية أثبتت أن الأمر لم يكن نتيجة مزايدات، بل هو قناعة وطريقة تفكير لم تغادرها عقلية الحرب الأهلية وما قبلها ولا زالت للأسف على الرغم من إدعائها عكس ذلك، وهو ما يتجلى اليوم عند كل مفصل من مفاصل الحياة السياسية والوطنية عبر خطاب تعبوي تهييجي يدعو إلى مواجهة فئوية لا وطنية، وهو ما ساهم قبل سنوات في إنهاء قوى 14 آذار ومعها الجو السيادي الوطني الجامع الذي تكوَّن منذ العام 2005، وساهم في خسارة العمود الفقري لـ “الفريق الآخر” عبر إحراجه فإخراجه، ليقتصر الأمر اليوم على حزب مسيحي يرى نفسه “قائداً” وبعض الشخصيات والحركات من الطوائف الأخرى التي لا يمكن – مع كامل الاحترام لها – أن تعطي شرعية وطنية كاملة لأي تحرك.

الأمر نفسه ينطبق على القوى التي تدَّعي المقاومة ومقارعة الاحتلال، التي كانت تنطلق في خطابها – سواء في السابق أو اليوم – من خلفيات قومية أو دينية أو أممية في صراعها مع “العدو التاريخي للأمة العربية”، أو مع “الصهيونية والامبريالية العالمية”، أو مع “الشيطان الأكبر والغدة السرطانية التي زرعها في المنطقة”، بحيث لم تكن المقاومة يوماً خالصة لوجه الوطن لبنان، بل غالباً ما كانت ترتبط بأهداف ومصالح وطموحات لا قِبَل للبنان بها في المضمون، وخطاب ثوري تحريضي نافر ومنفِّر في الشكل، فكان أن أثقلت نفسها وبلدها وأدخلته في متاهات لعبة الأمم حتى تحول إلى ساحة مستباحة لكل من هبّ ودبّ.

حتى الأحزاب والحركات التي إنطلقت بهدف المطالبة بالعدالة الاجتماعية كان خطابها إيديولوجياً أممياً عالي السقف، وطموحاتها لا تحدها حدود وكأنها مسؤولة عن إصلاح هذا الكون، فكان الخطاب أكبر من الامكانات المتاحة لمحاولة التغيير ما جعل الناس تنأى بنفسها عنها.

وهكذا نرى أن طريقة طرح الأطراف السياسية اللبنانية لمواقفها ومشاريعها، فيها الكثير من الغرور والعنجهية والفئوية البعيدة كل البعد عن “الوطنية الحقيقية” التي تقتضي مقاربة الأمور بطريقة مختلفة تضمن حقوق كل الأطراف وتعالج مخاوفها عن طريق الالتزام بما إتفق عليه اللبنانيون، وهو اليوم وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ “إتفاق الطائف”، والنضال السلمي تحت سقف هذا الاتفاق مهما إعترى هذا النضال من مصاعب وعقبات، فطريق النضال لم يكن يوماً مفروشاً بالورود، بل هو طريق صعب وشاق، لكنه على صعوبته يبقى أقل ضرراً وتكلفة من اللجوء الى الحرب الأهلية والتقسيم من جهة، أو الخنوع والاستسلام للأمر الواقع من جهة ثانية، فهل يبدِّل “المحامون” لهجتهم وطريقة طرح مرافعاتهم قبل أن ينزلق البلد إلى 13 نيسان أخرى، حيث هناك أكثر من “بوسطة” تنتظر عند كل مفترق طريق وحدث؟ نأمل ذلك ونتمناه قبل فوات الأوان.

شارك المقال