نصر الله – جعجع: السلاح والسماح الى متى؟

أنطوني جعجع

سواء سقط باسكال سليمان في “عملية سلب” نفذتها عصابة سورية محترفة أو عملية اغتيال نفذها “حزب الله”، فثمة أجواء تحاول نقل البندقية من الجنوب الى الداخل انطلاقاً من هدفين أساسيين: الأول أن تطور الأحداث منذ “السابع من أكتوبر” جعل محور الممانعة مكشوف الظهر، والثاني أن هذا المحور يحاول استعادة هيبته التي تهشمت خلال المواجهات الدائرة على الجبهة الاسرائيلية.

ولا يختلف الكثير من المراقبين على أن ما جرى في جبيل لا يبرئ الفريقين السوري واللبناني سواء قسراً أو طوعاً، اذ ان الفريق الأول، المدرب جيداً والمطلع جيداً أيضاً على طبيعة المنطقة وجغرافيتها، تصرف وكأنه في بيئة حاضنة، وان الفريق الثاني لا يجد أي مشكلة في تنفيذ عملية كهذه في منطقة يسيطر عليها بالنار ويحتفظ فيها بقوة شعبية وعسكرية تمتد من جبيل حتى بعلبك.

لكن السؤال يبقى لماذا منسق “القوات اللبنانية” في المنطقة باسكال سليمان وليس سواه؟ ولماذا هذا التوقيت تحديداً؟

والجواب يكمن في سؤال آخر، لماذا الياس الحصروني في عين ابل؟ ولماذا بلدة رميش؟ ولماذا الحملة على البطريرك بشارة الراعي؟ ولماذا هذه الحملة على المسيحيين ووضعهم في خانة العملاء والخونة؟

والجواب أيضاً يكمن في أسئلة أخرى: لماذا سبحة الاغتيالات التي بدأت بالرئيس رفيق الحريري ولم تنتهِ بلقمان سليم، وهي اغتيالات دلت في معظمها وفي شكل مباشر وغير مباشر على “حزب الله”؟ ولماذا “الثامن من أيار” الذي لجم المعارضة السنية؟ ولماذا “حرب تموز” التي نصبت حسن نصر الله ولياً على أمور لبنان شعباً ومؤسسات ووضعته في قبضة ايران؟ ولماذا ما يجري في الجنوب من قتل وقصف وتدمير من أكثر من نصف عام؟ ومن أجل أي لبنان وأي مقاومة وأي تحرير؟

لكن السؤال الأهم يبقى على الرغم من ذلك، لماذا التحرش بحزب “القوات اللبنانية” تحديداً؟

الجواب لا يحتاج الى الكثير من التدقيق والتمحيص، في وقت درج “حزب الله” سواء مباشرة أو عبر أشباحه، على البحث عن خصم عقائدي مستعد للمواجهة في الشارع سواء من منطلق قوة أو من منطلق انفعالي ليبدأ معه معركة الداخل التي يعتبرها “نزهة” تقوده في النهاية الى سيطرة مطلقة على لبنان جديد لا مكان فيه لأي معارضة أو أي خصومة من أي نوع.

ويكشف مصدر قريب من محور الممانعة أن “حزب الله” المحرج والمرتبك في الجنوب، لا يستطيع المضي في معركته وهو متوجس من أي خلل داخلي قد “يطعنه في الظهر”، خصوصاً بعد فشله في تأمين غالبية تضع سليمان فرنجية في قصر بعبدا، مشيراً الى أنه مقتنع بأن حزب “القوات اللبنانية” هو “حزب مسلح ومدرب ومعبأ وقادر على الانتشار في الداخل أو على الأقل الدخول في مواجهة مع الخلايا الشيعية المسلحة المنتشرة في المتن وكسروان وجبيل ومناطق أخرى في جبل لبنان والشمال”.

ويضيف: “ان المحور الايراني الذي يعتبر جبهة الجنوب الجبهة الأقوى في مواجهة اسرائيل ويستعد بالتالي للانطلاق برد انتقامي بعد قصف قنصليته في دمشق، انما أراد فعل ذلك من دون أي هواجس من أي نوع حتى لو تلقى آلاف التطمينات والضمانات والتسويات”، معتبراً “لبنان الممسوك” مدماكاً أساسياً في الحرب الدائرة مع كل من اسرائيل وأميركا، لا بل المدماك الصافي الذي لا يجد من يعترضه على غرار سوريا حيث الوجود الأميركي والتركي والكردي والسني، والعراق حيث الوجود الأميركي والسني والكردي والشيعي المعتدل، واليمن حيث الأساطيل الحربية الغربية والجيش اليمني الشرعي اضافة الى القوة الخليجية العسكرية المتأهبة وتحديداً في السعودية.

وليس سراً أن هذا الانطباع، برز في الخطاب الأخير للأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله عندما تحدث عن بنادق في حوزة “القوات اللبنانية”، متهماً الأخيرة بالسعي الى حرب أهلية ومهدداً المسيحين بالمباشر إن هم تحرشوا بالمجمعات الشيعية المنتشرة في جبيل وكسروان، منصّباً نفسه حارساً للشيعة ومتجاهلاً دور الجيش والقوى الأمنية الأخرى.

ولم يكن التوجه نحو المسيحيين جميعاً أمراً عادياً بمقدار ما كان أمراً لافتاً واستثنائياً، خصوصاً أنه شمل ضمناً “التيار الوطني الحر” الذي ناصر قضية سليمان وكثف من المواقف التي تبعده عن “حزب الله”، وكأن نصر الله أراد إفهام الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل أن لا مكان بعد اليوم لأي “مسيحي وطني” وغير وطني أو “مسيحي حليف” أو مسيحي عدو، واضعاً الجميع في سلة واحدة أو خانة واحدة.

ولا شك في أن ما قاله نصر الله والاصبع التي رفعها أكثر من مرة، رسما حداً فاصلاً بين الثنائي الشيعي والطائفة المسيحية، وكدّسا أكياس الرمل التي تنتظر انتشار المسلحين من الطرفين خلفها استعداداً للحرب.

وأكثر من ذلك، يقول مصدر في المعارضة: “ان ما ينطبق على إحراجات حسن نصر الله في الجنوب والبقاع، بات ولو بطريقة مختلفة، ينطبق على إحراجات سمير جعجع الذي يجد نفسه أمام خيارين: اتباع سياسة ضبط النفس تماماً كما فعل بعد اغتيال الحصروني، وهو أمر قد يؤدي الى ارتياح رسمي موقت وغير مثمر أولاً وتململ حزبي ثانياً، واما الدخول في مواجهة مباشرة لا يبدو متأكداً من فرص الانتصار فيها”.

والواقع أن محور الممانعة يريد استنزاف جعجع وسحبه من الكيان المسيحي المعترض، تمهيداً لاخراج كل الآخرين وفي مقدمهم البطريرك الماروني وحزب “الكتائب”، الى جانب الكيان الدرزي والمعارضة السنية المعتدلة.

وأكثر من ذلك أيضاً، ان التعرض لموقع جعجع يعني التعرض لأقرب حلفاء السعودية في الشارع المسيحي، وأقرب الحيثيات المسيحية الى الاستراتيجية الأميركية في لبنان، والأكثر قدرة على قيادة المعارضة اللبنانية سواء في الشارع أو في الاستحقاقات السياسية لا سيما الجولات الرئاسية.

والسؤال هنا: ماذا يمكن أن يفعل جعجع وهو يتلقى خبر سقوط ثاني مسؤول حزبي كبير في غضون أشهر، وهو المتهم، حتى من قاعدته بأنه يتحمل جزءاً من المسؤولية في ما أصاب ويصيب لبنان، لا سيما بعدما ساهم في ايصال مرشح “حزب الله” ميشال عون الى الرئاسة وفي تمرير القانون الانتخابي الذي نزع الغالبية من المعارضة في انتخابات العام ٢٠١٧ وفي تشتيتها في العام ٢٠٢٢؟

والأخطر في كل ذلك، أن نصر الله لم يعد قادراً على تحمل السقوط المريع في مصداقيته وهيبته، وأن جعجع لم يعد قادراً على ابتلاع ما يصيب رجاله سواء قتلاً أو تململاً، ما يعني أن اصبعي الرجلين على الزناد وينتظران من منهما يطلق الطلقة الأولى أو أي طابور خامس يجرهما الى الميدان بطلقة من بعيد.

وما عزز هذه المخاوف تزامن مقتل باسكال سليمان مع مقتل محمد سرور في بيئة مسيحية وفي عملية احترافية يتردد أن “الموساد” الاسرائيلي نفذها وقضى بها على واحد من أهم موزعي الأموال الايرانية على كل من “حزب الله” وحركة “حماس”.

وانطلاقاً من هذا المشهد لا بد من سؤال جوهري: هل القاتل واحد في جبيل وبيت مري أي اسرائيل في محاولة منها لجر “حزب الله” الى الداخل؟ هل هو “حزب الله” نفسه في جبيل ضالعاً وفي بيت مري “ضحية” في محاولة لحقن النفوس لدى الطرفين والوصول الى تخيير المعارضة بين واحد من أمرين: اما فرنجية رئيساً واما الحرب الأهلية؟

الجواب بسيط جداً في رأي المتتبعين للملف اللبناني، وهو أن حسن نصر الله الذي راعه حجم الانتقادات المباشرة التي يتعرض لها شخصياً وحجم الحملات الكثيفة على مغامراته الفردية المتكررة، يعرف أن اسرائيل تمكنت من خرق منظومته التي يبنيها منذ أربعين عاماً، وأن أحداً لم يعد يصدق تنصلاته من مسلسل العنف والتصفيات نظراً الى سبحة الاغتيالات التي ألصقت به صواباً أو باطلاً، وأن جعجع يعرف أنه بعد الحصروني وسليمان لم يعد قادراً على لعب دور التلطي خلف الدولة، وهما أمران يجران الرجلين الى الشارع وليس الى المؤسسات.

في اختصار لا شيء يستطيع اختصار ما جرى بين جبيل وبيت مري وقبلها في عين ابل ورميش، الا ما قاله أحد المعلقين المخضرمين: نصر الله خائف من أن تنزع تداعيات حرب الجنوب الحكم من يده في بيروت، وجعجع خائف من تكرار “تجربة سيدة النجاة” بحيث يجد نفسه بعد ثلاثين عاماً في الموقع الذي يخيّره هذه المرة بين الحرب والحرب وليس بين الحرب و”الحصار”. وفي اختصار أيضاً، يعرف نصر الله أن معظم السوريين الفاعلين في لبنان هم من أنصار النظام الحاكم في دمشق، ويشكلون بالتالي الخلايا النائمة التي يمكن أن تستيقظ في المناطق المسيحية غب الطلب، وأن جعجع يعرف ذلك أيضاً، لكنه عالق بين مشكلتين: الأولى أن الصدام مع السوريين يعني الصدام مع الأمم المتحدة، وأن التغاضي عن ممارساتهم يعني تهجير من تبقى من المسيحيين في لبنان… فماذا يختار؟

شارك المقال