عدوّ المسيحيين!

جورج حايك
جورج حايك

لا بد من الاعتراف بأن جبران باسيل ظاهرة سياسية، لكن كي لا يُفهم كلامنا خلافاً لما نقصده، فهو ظاهرة “شرّ” بكل ما للكلمة من معنى، وهذا التعبير ليس من ابتكارنا، إنما للصحافي المخضرم سركيس نعوم الذي وصف باسيل بـ”الشرير”، مؤكداً أنه “تهمه مواقفه الشخصية وليس مصلحة البلد، وهي التي دائماً ما يكون لها هذا البعد الشخصي”.

واللافت أن باسيل ينطلق دائماً من حيثيته المسيحيّة كي يمنح نفسه مشروعيّة وطنيّة، لأن النظام اللبناني يقضي بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بحيث يعتبر نفسه الرقم الصعب مسيحياً، علماً أنه لم يصل إلى موقعه التمثيلي الحالي بمهارته وقدراته، إنما ورث زعامة “التيار الوطني الحر” عن عمّه العماد ميشال عون، واستغل شعبيته ليحرز بعض المقاعد النيابية، واستفاد من موقعه في رئاسة الجمهورية ليتمدد في السلطة، وبالنتيجة قطف باسيل ما زرعه عون، ولم ينجح في المحافظة على هذا الإرث، بل بدأ يخسره تدريجياً على صعيد تياره ومسيحياً ولبنانياً.

لا شك في أن الشعب اللبناني، بمختلف فئاته، هو الخاسر الأكبر من وجود باسيل في الحياة السياسية، إنما الأكثر وجعاً منه هم المسيحيون، وقد أخذهم في مسارات، وقبله عمه وراعيه، أدت الى قتلهم ودمرت الدولة حتى انتهى به الأمر ملوث الجبين على عتبات بشار الأسد وبلاد الفرس.

وخُدِعَ المسيحيون كثيراً منذ العام 1989 حتى اليوم، لكن كثراً منهم استفاقوا ليجدوا أنفسهم في فوضى دستورية، يتحمّل مسؤوليتها باسيل نفسه بعدما رماهم في أحضان “حزب الله” ومشروعه المناقض لتاريخهم ووجدانهم، فتشارك معه في تعطيل الاستحقاقات الدستورية وفقاً لمصالحه، وآخرها الانتخابات البلدية التي يتذاكى باسيل بتخيير اللبنانيين بين خيارين مرفوضين أصلاً وأساساً: الفوضى والتمديد، والمطلوب بكل بساطة الالتزام بالمهلة الدستورية، ولكنه، تهرباً من هذا الاستحقاق، يحاول “تهبيط” الحيطان على اللبنانيين بتخييرهم بين السيء التمديد، والأسوأ المجهول، السيء والأسوأ هما الحجة للتمديد، فيما الفراغ لا يجب أن يكون مطروحاً أساساً، والخيار الوحيد المطروح هو إجراء الانتخابات البلدية في موعدها الدستوري، وبالتالي ما يفعله باسيل هو جريمة موصوفة بحق لبنان واللبنانيين والدولة ومؤسساتها، وكل من يمدِّد ينقلب على الدستور، وهو خائن بحق البلد والناس بإمعانه في ضرب آخر مرفق، بعد القوى الأمنية، يشكل ملاذاً لهؤلاء الناس.

وربطاً بموضوع الانتخابات البلدية، يعلم باسيل أن التمديد لها هو تمديد مقنّع لبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، ولا يهم كيفية تصويت النائب باسيل في جلسة التمديد، إذ تكفي مشاركته فيها تأميناً للنصاب المطلوب لتمرير هذا التمديد الذي أحد أهدافه الأساسيّة عدم تنفيذ تعاميم وزارة الداخلية، وهذا عدا عن الأهداف الأخرى والمتمثلة في تجنُّب الصدام بين “الحزب” وحركة “أمل”، كما تجنُّب صدامهما مع العشائر والعائلات والمجتمع المدني الشيعي، وتجنُّب باسيل أيضاً وأيضاً خسارة مدوية في البلديات، لأنّ انتصاراته تتوقّف على رافعة الثنائي الحزبي الشيعي حصراً.

ويُدرك باسيل أنّ النظام السوري لا يريد عودة اللاجئين السوريين، وهو حليف هذا النظام. ويدرك أنّ “الحزب” لا يقوم بعمل يتناقض مع أهداف النظام السوري بالتهجير والفرز، ورئيس “التيار” حليف “الحزب”، ومعلوم أنّ لا أولوية له سوى السلطة والنفوذ، و”الحزب” يمدّه بالسلطة والنفوذ بدءاً برئاسة الجمهورية والوزارة والنيابة، وصولاً إلى نقابة المهندسين وغيرها، وبالتالي يعمل على المزايدة والمتاجرة في محاولة يائسة منه لتغطية بقاء اللاجئين وسلاح “الحزب” وغيرهما من الملفات التي تقوِّض دور الدولة وتشكل خطراً على لبنان واللبنانيين.

وفي جلسة مع أحد المسؤولين العونيين القدامى الذين “هشلوا” بسبب تصرفات باسيل وتسلّطه وتحويله “التيار” إلى مؤسسة عائلية، يكشف كل ما سبّبه باسيل للمسيحيين من أضرار جسيمة، لافتاً إلى أن “باسيل ورث عن عمّه الخداع، ونحن كنا أكثر المخدوعين، فعون ضرب مناطق المسيحيين وضربهم ببعضهم وأضعف مقومات صمودهم ليتحولوا لقمة سائغة في فم الأعداء منذ العام 1988، وكان أشبه بحصان طروادة الذي لولاه لما استقوت على المسيحيين قوى الشر فتسلّط عليهم نظام دمشق وعملاؤه في لبنان”.

ويستطرد المسؤول العوني السابق: “وعندما وصل عون وباسيل إلى السلطة راحا يتلهيان تحت شعار حماية حقوق المسيحيين بإعادة انتاج معادلات ما قبل الحرب الأهلية التي دمرت الحجر والبشر من خلال اللعب على العصب الطائفي والمذهبي وحقوق المسيحيين ومحاولة استرجاعها بضرب الطائف وإعادة عقارب الساعة الى الوراء”.

وبالمعنى السلبي، يُعتبر باسيل “الشبل” من عون “الأسد”، ويشير المسؤول السابق إلى أن “باسيل أمعن في ضرب الدولة على حساب الدويلة والتحالف مع السلاح غير الشرعي على حساب مؤسسات الدولة وسيادتها واستقلال قرارها، فنحر الوجدان المسيحي الذي لا يجد نفسه إلا من خلال مشروع دولة سيدة وحرة ومستقلة أرادها المسيحيون فلسفة لوجود لبنان منذ العام 1920”.

ويضيف: “لم يتوقف خداع رئيس التيار عند هذا الحد، فاختار الاصطفاف الطائفي الى جانب الشيعة ضد السنة، وكان هذا الاصطفاف المدمر، لأن استقرار المسيحيين لا يحفظه اللعب على تناقضات طائفية وانغلاق مذهبي، بل بالانفتاح على الطوائف كافة ولعب المسيحيين دور جسر العبور والتواصل بين اللبنانيين وبين الشرق والغرب، بينما باسيل تبنّى معادلة تحالف الأقليات وأبى الانفتاح على العالمين العربي والاسلامي متمترساً خلف دمشق وطهران من مجمل الكرة الأرضية”.

لقد عانى المسيحيون الأمرّين من النظام السوري في الحرب اللبنانية وسقط لهم آلاف الشهداء والمعتقلين بسبب عنف هذا النظام وبطشه، وفق المسؤول السابق، إلا أن باسيل ارتأى التحالف مع قاتل المسيحيين ومضطهدهم العائلة الحاكمة في دمشق من الأب الى الابن، وعون نفسه أبى العودة الى لبنان وفق صفقة مع تلك الطاغية، حتى أنه لم يجرؤ على المطالبة بالمفقودين المسيحيين وغير المسيحيين في السجون السورية منذ الحرب الاهلية والى يومنا هذا، لا بل عدم المطالبة برفات جنود الجيش اللبناني الذين قاتلوا ذوداً عن عون وعائلته يوم 13 تشرين المشؤوم”.

ويوضح العونيّ “العتيق” أن “باسيل استمر في ضرب كل ما يفتخر به المسيحيون من مؤسسات: مدارس وجامعات ومصارف ومستشفيات… عبر الانبطاح لارادة إيران ووكيلها في لبنان واعتماد الذميّة في التعاطي معهما عبر معادلة الفساد والسلاح أو الابتزاز كلما قصّر حزب الله عن تلبية تطلعاته ومؤازرته، فكان باسيل أسوأ ما حصل للمسيحيين منذ قرون، إذ ضرب كل رؤيتهم للدولة وحقوقهم، بل مسح الأرض بهذه الحقوق لأهداف شخصية وعائلية ضيقة ويستخدمها كل فترة ورقة مقايضة لمصالحه الذاتية”.

ويتساءل: “ماذا فعل باسيل بحماية حقوق المسيحيين غير التوظيفات العشوائية لأزلامه ومحازبيه في مراكز الدولة ووظائفها العامة؟ ومن قال له انه المسيحي الوحيد؟ لقد انكشف الأمر للمسيحيين، وأكثريتهم لا تصدّق باسيل حين يتكلّم عن حقوق المسيحيين والتي هي في الواقع شمّاعة تعلق عليها صفقات انتفاعه وسرقاته وفساده وزبائنيته”.

في الحقيقة، ما كشفه المسؤول العوني السابق عن باسيل هو غيض من فيض، ويكفي ما فعله لضرب كل ما يمكن أن يعزز الدور المسيحي، فتقرّب من “القوات” عام 2016 ليتفق معها على ما سميّ “تفاهم معراب” ثم انقلب عليها بمجرد وصول عمّه إلى رئاسة الجمهورية، مقدماً نموذجاً كاملاً من الانتهازية، معتبراً نفسه ممثل المسيحيين شبه الحصري داخل مؤسسات الدولة، ضارباً عرض الحائط بمبدأ الشراكة مع بقية الأطراف المسيحية. وعندما نصّب نفسه “حاكم الظل” في قصر بعبدا، راح يتاجر بكل الملفات، وخصوصاً أنّه حكم وتحكّم بمفاصل أساسية في السلطة بدءاً برئاسة الجمهورية، مروراً بأكثرية وزارية، وصولاً إلى أكثرية نيابية وتحالف عريض مع “الحزب”، فإذا حقق نجاحاً نادراً يتباهى به وحده، أما إذا أخفق كالعادة يذهب بإتجاه إتهام “القوات” كما يفعل في ملف اللاجئين السوريين اليوم، وهو كان الآمر الناهي في هذا الملف وملفات أخرى! وكل ما فعله باسيل خلال 6 أعوام من حكم عون، هو تشويه صورة رئاسة الجمهورية، متحالفاً مع حزب ينتهك السيادة ويمنع قيام الدولة الفعلية ويُبقي لبنان ساحة حروب وفوضى. كل ذلك، أثار نقمة لدى اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، فقامت ثورة 17 تشرين نتيجة أخطاء باسيل، ولا سيما أن الكهرباء التي وعد بها طويلاً لم تأت، ولا جرت محاكمة فاسد واحد، ودخل وأدخل العهد في عملية المحاصصة!

وبعد انتهاء عهد عون والثورة ضد “الصهر”، كان من المتوقع أن يجري باسيل إعادة نظر في سياسته المنحرفة، إلا أنه لم يترك أحداً من شرّه، فصوّب سهامه إلى كل المسؤولين المسيحيين الذين يتولون مواقع حسّاسة مهاجماً ومشهّراً بحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وقائد الجيش العماد جوزيف عون، لغاية في نفسه الطامعة الجامحة. وها هو يستمر في السير عكس الوجدان المسيحي من خلال التحالف مع “الحزب”، محاولاً الاستمرار في النفاق السياسي بأن تفاهم مار مخايل ليس بخير وعدم رضاه عن حرب “الحزب” الحالية تضامناً مع غزة، لكنه يرى سلاحه ضرورة وطنيّة للدفاع عن لبنان، وما إلى هنالك من تناقضات لا تنتهي، تعكس نزعة استغلالية لمنفعة خاصة، لا تأبه بمستقبل المسيحيين ومصيرهم في لبنان. لذلك هو عدوّ المسيحيين الرقم واحد!

شارك المقال