الانسحاب السوري (٣/٣)… غياب برنامج العبور للدولة ساهم بإجهاض الاستقلال الثاني

زياد سامي عيتاني

بعد إعلان الرئيس السوري بشار الأسد رضوخه للضغوط الدولية والعربية جراء جريمة العصر باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، نظم “حزب الله” وحلفاؤه في 8 آذار، أي قبل مرور أقل من شهر على عملية الاغتيال، تظاهرة كبيرة في وسط بيروت (ساحة رياض الصلح)، تحت عنوان “شكراً سوريا”، للمطالبة ببقاء هذا الجيش في لبنان. تلك التظاهرة، شكلت حالة إستفزازية كبيرة لدى غالبية اللبنانيين (ما عدا جمهور الثنائي الشيعي)، في وقت كانوا لا يزالون يعيشون تحت تأثير صدمة الاغتيال، بحيث كان شبه إجماع لبناني، على أنه إغتيال للبنان ولمستقبله، بدليل العنوان العريض لصحيفة “السفير” في اليوم الثاني من الجريمة: “مستقبل لبنان في مهب الريح: رفيق الحريري شهيداً!”.

وتظاهرة 8 آذار، دفعت أركان “التحالف السيادي” الذي أطلق عليه لاحقاً “قوى 14 آذار” الى الاعداد لتظاهرة أكبر وأوسع، لنقل رسالة إلى عواصم القرار بما تحظى به من إلتفاف شعبي، يفوق بكثير جمهور حلفاء سوريا في لبنان. وتم اختيار يوم 14 آذار موعداً للتظاهرة، الذي يصادف ذكرى مرور شهر على إغتيال الحريري. فكان ذلك اليوم، يوماً مشهوداً في تاريخ لبنان، قد لا يتكرر، بحيث كانت التظاهرة “المليونية” التي ملأت ساحتي الشهداء ورياض الصلح وجميع الشوارع المؤدية إليها.

في 26 نيسان 2005 انسحبت آخر مجموعة من الجيش السوري وغادر رستم غزالة آخر رئيس للاستخبارات السورية في لبنان. في ذلك اليوم، (للمفارقة) وبعد مغادرة آخر جندي سوري الأراضي اللبنانية، توجه بعض الشباب الذين ينتمون الى “التيار الوطني الحر” إلى منطقة نهر الكلب، حيث توجد لوحة جلاء الفرنسيين عن لبنان، ورفعوا لوحة صخرية حفر عليها “في مثل هذا اليوم تم جلاء آخر جندي من الاحتلال السوري عن الأراضي اللبنانية”، في إشارة إلى أن لبنان نال استقلاله الثاني.

منذ ذلك الحين، دخل لبنان مرحلة جديدة من تاريخ الصراعات والأزمات والانقسامات، التي لا تزال مستمرة وبوتيرة متصاعدة، وتتداخل فيها العوامل الداخلية مع المؤثرات الخارجية، ما يثير القلق والمخاوف على مستقبله المهدد وجودياً (لا يتسع المجال لعرضها). وهذا الواقع، يطرح سؤالاً مركزياً، بعد 18 عاماً على الخروج السوري من لبنان: “هل نال لبنان فعلياً إستقلاله الثاني، وبالتالي هل عرف تحالف قوى 14 آذار توظيف الخروج السوري في إرساء معادلة وطنية جامعة؟ لا مكان للعواطف لمقاربة الاجابة الموضوعية بكل تجرد عن السؤال.

وإستهداف “قوى 14 آذار” بالسؤال، دون الفريق الآخر، لأنها إعتبرت نفسها صاحبة الانتصار. بالتأكيد من المستحيل في مقال الاحاطة الكاملة والشاملة بالموضوع، الذي قد يحتاج الى طاولات حوار وتقويم ومراجعة من نخبها الفكرية. لكن “قوى 14 آذار” التي طرحت شعاري “لبنان أولاً” و”العبور إلى الدولة” لم تتمكن من إنتاج وبلورة مفهوم نظري وبرنامج عملي لذلك العبور إلى الدولة، ولا كيفية تنقية الدولة المثقلة بـ “التركة السرطانية المضخمة” التي كرّستها مرحلة التدخل السوري بكل مفاصلها. وقد وقعت تلك القوى في الخطأ نفسه لـ “حزب الله” المنتشي بتحرير الجنوب عام 2000، فلم تكن تقل غروراً وتبجحاً عنه في طروحها، التي كانت تفتقد إلى القواعد التي تتحكم بالحياة السياسية في لبنان.

لقد كان حرياً بـ”قوى 14 آذار” إبتكار صيغة خلاقة تجمع ما بين إنتصاري تحرير لبنان من العدو الاسرائيلي عام 2000، وخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، تكون مناسبة لا بل فرصة تاريخية لإعادة تجميع الفرقاء اللبنانيين حول مفهوم الدولة وبشروطها، بعيداً عن عقلية الانتصار والانتصار المضاد، بعدما إنقضت أكثر قضيتين خلافيتين بين الفرقاء المتخاصمين. لكن “قوى 14 آذار” قبل أن تتصدع وتتشظى، وقع أبرز قادتها في مستنقع المصالح الطائفية والمذهبية “النفعية” على حساب المشروع الوطني. وتركت الساحة لهيمنة جديدة، من إيران، بواسطة “حزب الله”، ذراعها العقائدية والسياسية والعسكرية في لبنان!

شارك المقال