تحية إلى درعا!

اكرم البني
اكرم البني

تتعدد الاجتهادات وتتنوع في تحديد الأسباب التي دفعت السلطة السورية لتصعيد القصف والقتال ضد “درعا البلد” بعد أعوام من تسوية مستقرة تمت برعاية القوات الروسية في شهر تموز من عام 2018.

لا يخطئ من يرجع السبب لرد فعل انتقامي من النظام مدعوماً بالميليشيا الإيرانية، على مدينة عرفت بأنها مهد انطلاق ثورة السوريين. مدينة رفض أهلها بشكل صريح الانتخابات الرئاسية التي جرت أخيراً، وسيروا مظاهرات تندد بها وتطعن بشرعيتها، أو من يربط السبب بضيق صدر السلطة من اتفاق تسوية سمحت، وبخلاف تسويات أخرى، ببقاء غالبية مقاتلي فصائل المعارضة في المدينة، والتي لم تسلم من تجاوزات أمن السلطة باعتقال بعض شبانها أثناء مرورهم على الحواجز العسكرية أو عند مراجعتهم للدوائر الرسمية، وترويج دعايات مغرضة بأنهم شاركوا في القتال مع “داعش” أو “النصرة” يحدو ذلك هدف مضمر لحكام دمشق هو الافادة من فتح ملف درعا، لتشجيع حكومة عمان على مزيد من المرونة في التعاطي مع الوضع السوري وجعل معبر “نصيب” مع الأردن، بوابة لعبور بعض الراغبين من الدول العربية والغربية، لتشارك بإعادة الاعمار، بخاصة أن اشتراطات هذه الدول لإعادة العلاقات مع دمشق بدأت بالتراجع لتقتصر أساساً على تحجيم الوجود الإيراني في سورية.

ولا يجانب الصواب من يربط السبب برغبة حكام طهران ومعهم قادة “حزب الله” اللبناني، في إزاحة الوجود المعارض بمنطقة حوران تمهيداً للتغلغل فيها وتحسين حضورهم العسكري بالقرب من إسرائيل لزيادة قلق الأخيرة وتحسبها كما للإمساك بورقة جديدة في مفاوضاتهم مع الغرب حول ملفهم النووي وحول نفوذهم في المنطقة، وربما لمحاصصة القوات الروسية على المنافذ الحدودية، والقصد أن أحداث درعا ونقض التسوية التي جرت برعاية روسية يمكن أن تكون وسيلة ضغط من طهران وبعض أطراف النظام على موسكو، ودليلهم إشارات عن عدم رضا موسكو من إعلان الحرب على درعا، وتالياً عدم مشاركة طيرانها في قصف المدينة، ثم تدخل قادة القوات الروسية هناك، لعقد تسوية جديدة توقف القتال وتفك الحصار.

ومع أخذ الأسباب السابقة جميعها بالاعتبار، لكن الحقيقة المرة هي وجود توافق بغيض بين الأطراف الثلاثة المقررين للوضع السوري، عنوانه تمكين السلطة وإخضاع المجتمع والتفرد في الاستحواذ على مقدرات البلاد وثرواتها، وإن اختلفوا بالطرق والوسائل، إن تم ذلك عبر إفشال أية تسوية سياسية وتمييع المبادرات العربية وقرارات المجتمع الدولي المتعلقة بحل النزاع السوري، كبيان جنيف/ حزيران 2012/ والقرار الأممي/ 2254 كانون الثاني 2015/ أو عبر مؤتمرات خلبية غرضها كسب الوقت وتفكيك المعارضة السورية كما الحال في مؤتمرات سوتشي والآستانة، أو عبر ما سمي بمناطق التهدئة وخفض التصعيد والقيام بتسويات تحت القصف والحصار والتجويع لفرض شروط تخدم هذا التوافق، ثم العمل بعد حين على نقض تلك التسويات ذاتها، عندما تستنفد غرضها، والاستناد إلى المتغيرات الجديدة التي تطرأ على توازنات القوى، لغرض شروط أكثر إخضاعاً للناس وجماعات المعارضة، وهو ما تكرر في عدد من التسويات الخبيثة، أوضحها في مدينة حلب، ثم مدن الزبداني ودوما وحرستا ومضايا والقابون، مما جعل المشاركين بتسويات ريف حمص وبخاصة مدينة تلبيسة يتحسبون من احتمال أن ينقض النظام وحلفاؤه على ما اتُفق عليه.

والقصد أننا نقف أمام توافق محكم لثلاثة أطراف يتبادلون الأدوار في ما بينهم، لكنها مجمعة على الاستهتار بحيوات الناس وحقوقهم وتسخيرهم كمجرد أدوات لتعزيز سيطرتهم ونفوذهم، بما في ذلك تسويغ ابادتهم ان شكلوا ضرراً على مصالحهم، وفي تاريخ تلك الأطراف ومعها مختلف الميليشيات الموالية لهم، تاريخ حافل من الاندفاعات العدوانية المجرمة للنيل من البشر تنكيلاً وفتكاً، إن ضد شعوبها أو في بلدان نفوذها، والتي، في الخصوصية السورية، لن تهنأ أو ترضى سوى بإخضاع المجتمع بقضه وقضيضه لتسلطها واستبدادها.

بعد أكثر من شهرين ونصف شهر من الحصار والقصف ومن تدمير غالبية المنازل كلياً أو جزئياً، ومن إجبار الآلاف من المدنيين على الفرار، ومن ترحيل العشرات من المقاتلين إلى الشمال السوري، تمكن الوسيط الروسي من إعادة صياغة اتفاق تسوية جديد لوقف العنف والقصف وفك الحصار، وتضمن فرض بعض التنازلات الجديدة على اللجنة المركزية التي تفاوض باسم أهالي مدينة درعا، منها السماح بدخول دوريات للشرطة العسكرية الروسية، وفتح مركز لتسوية أوضاع المطلوبين وأسلحتهم، وإعادة عناصر مخفر الشرطة، ونشر أربع نقاط أمنية لمعاينة هوية الموجودين في درعا البلد لنفي وجود المقاتلين الغرباء، فضلاً عن وضع خطة ووسائط التهجير الجماعي موضع التنفيذ، لإخراج المسلحين الرافضين للتسوية.

في هذا المناخ المقيت والمؤلم، حيث لا أصدقاء عرب ودوليين يساندونهم، وحيث الدور الأممي مفقود، وحيث المعارضة ضعيفة ومشتتة، وثمة من يتربص بأية تسوية ويتعمد خرقها وإفشالها، بدليل تكرار القصف العنيف والعشوائي ضد المدينة، لا يسعنا سوى توجيه التحية إلى أهلنا في درعا، على صمودهم واستبسالهم لمنع اختراق المدينة والاستيلاء عليها واستباحة ناسها وبيوتها، ولنقل على ما يصح تسميته انتصاراً معنوياً لهم ضد آلة تدمير وقتل سلطوية لا ترحم.. تحية محفوفة بتقدير لدور الجنة المركزية في إعلائها قيمة حياة الناس وأفضلية بقائهم في أرضهم وبيوتهم، وتالياً بتفهم لحرصها على تجنب خيار خوض حرب غير متكافئة ستكبد أهالي درعا خسائر كبيرة ومزيداً من الضحايا والخراب وموجة جديدة من فارين ولاجئين، ضاقت بهم السبل ولم يعد ثمة متسع من الأماكن لترحب بهم.

شارك المقال