“اللعبة” الدولية الكبرى أطلقت الحكومة… وتحفظ مصالح إسرائيل

وليد شقير
وليد شقير

مع انطلاقة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والظروف التي أحاطت بتشكيلها يدعو أكثر من مراقب وسياسي لبناني إلى مراقبة اللعبة السياسية الكبرى الدولية والإقليمية التي يتأثر بها لبنان ومحيطه الإقليمي، بموازاة الاهتمام بما وصفه البيان الوزاري للحكومة بـ “التحديات الآنية المعيشية التي تفرض نفسها كأولويات”، إضافة إلى “مقاربة سائر الملفات البنيوية التي تساعد في تنشيط الاقتصاد وتطوير القطاعات الإنتاجية وجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة الداخلية والخارجية بالدولة”.

وعلى رغم أن بعض الوسط السياسي اللبناني يعتبر أن ظروف تأليف الحكومة خضع لحسابات محلية تأخذ في الاعتبار التطورات الإقليمية التي شهدها الإقليم في الشهرين الماضيين، ولم يكن بسببها في شكل مباشر، فإن أوساطاً أخرى تتابع ما يجري على الصعيدين الدولي والإقليمي على قناعة شبه جازمة بأن وقف عملية تعطيل الحكومة جاء بقرار خارجي، وتحديداً نتيجة تفاهم فرنسي – إيراني، تولت باريس بنتيجته حضّ ميقاتي ورؤساء الحكومات السابقين على تشكيل “أي حكومة”، فيما تكفلت طهران بإبلاغ “حزب الله” بوجوب إنهاء الفراغ الحكومي، مما دفع الحزب إلى الطلب من حليفه رئيس “التيار الوطني الحر” والرئيس ميشال عون تليين شروطهما في عملية توزيع الحصص في التركيبة الحكومية، طالما حصلا على مكسب اشتراك رئيس الجمهورية في التأليف، وطالما أن ميقاتي تجاوب مع الإصرار على التنسيق مع باسيل في تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب، واجتمع معه أكثر من مرتين بعيداً من الأضواء لهذا الغرض.

لكن النتيجة شبه الجازمة التي يخلص إليه المتابعون لمسار التأليف هي أن عون وباسيل تموضعا في شكل حاسم في الحضن الإيراني لقناعتهما بأن حفاظهما على مكاسبهما في السلطة لن يتأمن إلا عبر هذا التموضع.

وفي رأي أوساط متصلة بالخارج أنه في كل الأحوال هناك مظاهر لانعكاسات اللعبة الكبرى الدائرة بين الدول منها اعتقادهم بوجود غض النظر الأميركي عن استيراد النفط الإيراني من “حزب الله” إلى لبنان في سياق ترتيبات محتملة في المنطقة.

بعد التقرير الذي بثته وكالة “رويترز” الجمعة 17 أيلول عن أن إيران استمرت في بيع المشتقات النفطية التي تنتجها في الأسواق العالمية على رغم العقوبات الأميركية، فإن وقائع نقل المازوت الإيراني إلى لبنان تحفل بالدلالات. فمع العقوبات المفروضة عليها من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب منذ 2018 استطاعت طهران رفع مدخولها من بيع هذه المشتقات إلى 25 مليار دولار عام 2020، أي ضعف مدخولها من بيع النفط الخام الذي تشددت واشنطن بإخضاعه للعقوبات فيما كان مدخولها من بيع البنزين 3 مليارات دولار أميركي. وتقرير “رويترز” أشار إلى أن البنزين الإيراني يباع بالصهاريج وبالبواخر إلى أفغانستان وباكستان وينقل أيضاً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، ويخضع لإعفاءات من العقوبات. وشمل تصدير البنزين الإيراني أيضاً دولاً أفريقية إضافة إلى العراق…

كما أن التقرير توقع رفع العقوبات عن إيران في حال استؤنفت مفاوضات فيينا حول النووي، ونجحت في التوصل إلى نتيجة، فإن الصادرات الإيرانية ستقفز أكثر، نظراً إلى المنافسة التي تعتمدها طهران في الأسعار.

أما في ما يخص غض النظر الأميركي وكذلك الإسرائيلي، عن استقدام المازوت الإيراني، مع أن واشنطن حذرت لبنان من أنه قد يخضع للعقوبات بسببه، فإن المعطيات لدى المتابعين لهذه الخطوة تشير إلى الآتي:

  • أن عشرات الشاحنات السورية التي نقلت حمولة المازوت من بانياس في سوريا هي شاحنات سورية من نوع “سكانيا” التي تعمل منذ سنوات على خط نقل النفط الخام السوري الذي ينتج في حقل الرميلة الحسكة السورية الخاضعة لنفوذ قوات “قسد” ذات الأكثرية والقيادة الكردية الخاضعة للنفوذ الأميركي المحتفظ بقوات في تلك المنطقة وفي دير الزور، إلى بانياس الخاضعة لنفوذ النظام السوري، لتكريره. ومثلما أن هذه الشاحنات لم تكن لتستخدم لنقل النفط من منطقة تخضع لنفوذ أميركي من دون غض نظر أميركي فإن الأمر نفسه يسري على استخدامها لنقل المازوت الإيراني.

  • أن انتقال الصهاريج من سوريا إلى لبنان طرح إشكالية بين الجانب السوري وبين الحزب. فسوريا تعاني من نقص المحروقات وتحديداً المازوت، حيث يباع اللتر الواحد منه بـ 8 سنت، فيما ستباع حمولة الشاحات في لبنان بأقل من هذا السعر، ما تسبب بالإشكال الذي وقع بين الحزب الذي رعى قافلة الصهاريج المحملة بملايين الليترات من المازوت الإيراني وبين الفرقة الرابعة السورية الخاضعة لقيادة ماهر الأسد واضطر الحزب إلى تخصيص الفرقة بحصة. ويسأل البعض عما إذا كان المازوت الذي دخل إلى لبنان سيعاد نقله إلى سوريا مجدداً!

  • أن الحزب استثمر سياسياً شحنات المازوت الإيراني مكرساً قدرته على التصرف بمعزل عن الدولة اللبنانية. وهو استغل عجزها عن تنظيم الاستيراد نتيجة الأزمة المالية وفقدان العملة الصعبة، والتلكؤ في تنظيم رفع الدعم عن المحروقات، (وهي الأزمة التي للحزب دور في التسبب بها مع الطبقة السياسية الحاكمة) فيما بإمكانه بوسائله تأمين شراء المازوت الإيراني بالدولار الأميركي. وهو بذلك يفيد إيران قبل لبنان، فضلاً عن أنه دخل بهذه العملية سوق النفط اللبناني شريكاً مضارباً لكارتيل الشركات اللبنانية التي تستورد المشتقات النفطية. فالحزب يدرك، على رغم الحملة الإعلامية التي خاضها على الصعيد الشعبي، مثل الجميع أنه غير قادر على حل أزمة المحروقات. وهو يفتح بخطوته الباب على مطالبته من جمهوره لاحقاً باستيراد القمح إذا حصلت أزمة نقص فيه مثلاً، أو في غيره من المواد الأساسية. ولذلك من مصلحة الحزب أيضاً التكيف داخلياً مع التفاهم الفرنسي الإيراني بالدفع نحو تشكيل الحكومة لتتحمل معه وعنه صعوبات إدارة الأزمة الخانقة التي يعيشها البلد، بالتوازي مع تحكمه بالسلطة السياسية من طريق تحالفه مع عون وباسيل، وطالما تؤدي التفاهمات الدولية الإقليمية إلى تراجع الضغوط عليه. أما استمرار فرض العقوبات الأميركية على متعاملين معه فهو يتعاطى معها على أنها ضغوط غير فعالة.

  • أن مرور عشرات الشاحنات المحملة بالمازوت الإيراني عبر المعابر غير الشرعية التي كانت تستخدم للتهريب وربما لمرور القوافل العسكرية تشكل تحدياً أمام الدول المعنية التي راقبت كل ذلك، للجيش اللبناني. فللأخير 4 أفواج حدودية جرى تجهيزها من المساعدات الأميركية والبريطانية والغربية عموماً، لمراقبة الحدود وضبط استخدامها غير الشرعي. وبموازاة غض النظر الأميركي عن نقل المازوت الإيراني، يُطرح السؤال الآتي: إذا كانت شاحنات المازوت مرت بهذه السهولة، ماذا عن الشاحنات التي يمكن أن تكون محملة بالأسلحة والصواريخ التي تشكو من وجودها واشنطن وإسرائيل؟ وهذا يتناول دور الجيش في نظر دول غربية…

على رغم هذه المؤشرات المتناقضة عن التفاهمات التي تظلل قيام الحكومة، فإن ما استجد حول الإعلان عن إبرام عقود من إسرائيل مع شركة “هاليبورتون” الأميركية للتنقيب عن النفط والغاز في حقلي غاز “كاريش” و”كاريش نورث” الإسرائيليين في البحر، يشكل تحدياً إضافياً للبنان وللحكومة الجديدة في مواجهة إسرائيل. فحقل كاريش وفق الخرائط الإسرائيلية يقتطع جزءاً من البلوكين 8 و 9 العائدين للبنان وفق ترسيمه لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة له.

وإن كانت واشنطن دعمت بدورها قيام الحكومة الجديدة لاعتقادها بأن يجب الحؤول دون انهيار لبنان، فإن حصول “هاليبورتون” على عقد حفر 3 إلى 5 آبار لم يكن ليتم من دون علم الإدارة الأميركية. ويدل ذلك إلى أن القلق الأميركي على انهيار الوضع اللبناني الداخلي جراء الأزمة المالية الاقتصادية، شيء ومراعاة مصالح إسرائيل شيء آخر. فالجانب الأميركي اضطلع بدور في تسريع حصول لبنان على قيمة حقوقه بالسحوبات الخاصة من الأسهم في صندوق النقد الدولي (مليار و135 مليون دولار أميركي) لدعم احتياطي مصرف لبنان وإراحة السوق المالي واستخدام جزء من هذا المبلغ بتمويل خطة إنشاء أحد معامل الكهرباء، وبمعالجة الصعوبات الاجتماعية ومساعدة الأشد فقراً…

ويعتبر العارفون بالموقف الأميركي أن الإعلان عن حصول الشركة الأميركية على عقد حفر الآبار، يعني أن واشنطن باتت تعتبر أن اتفاق لبنان مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بات بعيداً أو صعباً نتيجة الموقف اللبناني في مفاوضات ترسيم الحدود التي رعتها واشنطن، وتوقفت مطلع السنة الحالية نتيجة رفع الوفد اللبناني سقف مطالبه بطرح خط حدودي جديد يعطي لبنان حقوقاً (قرابة 2100 كلم مربع) تفوق المنطقة الأساسية المتنازع عليها مع الجانب الإسرائيلي ومساحتها 860 كلم مربع.

وهذا ما جعل رئيس البرلمان نبيه بري يقول إن إسرائيل تنتهك بذلك اتفاق الإطار الذي كان عرابه، على التفاوض حول الحدود البحرية، داعياً إلى تحرك لبناني في اتجاه مجلس الأمن، فيما رأى رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط ” أنه كان يمكن استعادة قسم من المنطقة المذكورة لولا المزايدات”.

وينتظر أن يشكل هذا التطور عامل ضغط جديد على السلطة فيه وعلى “حزب الله”، بصرف النظر عن المعادلة التي أدت إلى إنهاء الفراغ الحكومي. فتقاسم ثروات الغاز في المنطقة تخضع لمصالح ومشاريع أبعد من المعادلة اللبنانية.

شارك المقال