مبانٍ كثيرة مهددة بالانهيار… أين الخطة السكنية؟

ليال نصر
ليال نصر

يعيش سكان المباني التي باتت أكثر عرضة للإنهيار جراء الزلازل والهزات المتتالية التي تحصل في تركيا وسوريا ومؤخراً في لبنان ويشعر بها خصوصاً سكان طرابلس وبيروت وبعض المناطق اللبنانية المحاذية أو المواجهة للبحر، حالة من عدم الأمان والترقب لاحتمال انهيار أي مبنى. وهنا تكمن أهمية مقاربة هذا الموضوع والتعامل معه باهتمام وجدّيّة من السلطات المعنية في لبنان لحماية الناس وسلامتهم العامة، وليس باستخفاف أو بصورة مجتزأة.

وقد شهدنا العام الماضي على الرغم من عدم حدوث هزّات، حوادث انهيار لسقوف مدارس في طرابلس المدينة التاريخية العريقة بالتصنيف، لكنها الأفقر على البحر المتوسط، ولا يترافق تصنيفها مع إنماء اقتصادي واجتماعي، جراء إهمال وتهميش تاريخيين من الدولة خصوصاً أن هناك خللاً تاريخياً في التعامل مع ملف السلامة العامة وصلاحية البيئة العمرانية في لبنان.

أسباب الخلل في المباني

تقول المهندسة المعمارية عبير سقسوق (من استوديو أشغال عامة) لموقع “لبنان الكبير”: “إن غياب السياسات السكنية العادلة واتخاذ الاجراءات العشوائية لأن الناس بحاجة الى الاعمار كي تسكن، هي التي أوصلت الوضع الى الهشاشة السكنية، وتفاقم الاخلاء أزمة يعيشها اليوم تقريباً كل اللبنانيين إنما بصورة متفاوتة، وتلعب السلطة دوراً فيها، فعندما لا تكون لدينا سياسات لتأمين السكن الميسّر، تضطر الناس الى السكن في مبانٍ غير صالحة أو مؤهلة. كذلك يزيد السوق التجاري والعقاري طوابق بصورة اعتباطية على المباني لأن هناك طلباً وحاجة الى سكن ميسّر، فيزيدها من دون الكشف عليها مسبقاً ليرى إن كانت فعلاً تحملها هذه المباني، كحالة كثير من الأحياء في طرابلس. ونعيش في سياق عمليات يرتبط البناء فيه بكيفية تفاقم الربح. فقطاع البناء يسيطر عليه بصورة شبه كاملة تجار البناء ومقاولون ومطورون ومستثمرون عقاريون. فعندما نسكن في بلد تكون الركيزة الأساسية فيه لاقتصادنا الوطني، المتاجرة بالأراضي والبناء نصل الى هذه النتيجة”.

وتشير الى أن “ما رأيناه بعد وقوع زلزال تركيا وسوريا، خير دليل على علاقة السلطة بالمقاولين في تركيا، وكيف استطاعوا في كثير من المباني أن لا يطبقوا معايير الحماية من الزلازل، وهنا يظهر أن البلاد التي تتحكم فيها طبقة من المقاولين وتجار البناء المدعومين سياسياً من الطبقة الحاكمة، تكون نتيجة عمار مبانيهم، الغش في المواد التي تستخدم كما الحال في لبنان حيث أولوية الربح وتفاقم المال على حساب كل شيء آخر. في لبنان، شرعّت الدولة ما هو معروف عبر السنوات بطابق المر كما فعلت في الثمانينيات من دون رقابة وفوضى في التطبيق، وما عرف مؤخراً بالواجهة الخامسة، وتعاميم وزارة الداخلية وهي إجراءات تسري على كل لبنان وتعطي الحق بتشييد طابق إضافي على الأبنية من دون رخصة”.

وتعتبر سقسوق أن هذه الاجراءات “ما هي إلّا استكمالٌ متعمّدٌ لاستقالة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية عبر طرح حلولٍ جزئيةٍ لمشكلةٍ أنتجتها وتستمرّ في مفاقمتها، وهي بمثابة خدمةٍ تقدمها السلطات، بدلاً من الاستجابة الى الحقّ في السكن.”

إشكالية المباني السكنية

تشرح سقسوق “أننا لا نستطيع مقاربة تخطيط المدن من دون منظور اجتماعي اقتصادي عمراني متكامل وشامل، وطبعاً هذا يعني أن على بلدية طرابلس والميناء، أن تضع خطة شاملة للمدينة لأن الترميم من دون مقاربة الملف من ناحية اجتماعية واقتصادية، سيجعلنا نعاني من غلاء الأسعار، وتضطر الناس حينها إلى إخلاء المباني من دون فائدة، لأننا نكون قد حمينا المباني لكن أخلينا المدن من الناس التي لها الحق بالعيش فيها”.

كذلك في مناطق مثل الجناح والأوزاعي وصور، وبسبب غياب خيارات السكن الميسّر، تضطر الناس الى تشييد مبانٍ أكثر وتقترب من البحر حيث تحدث أزمات كل عام، عندما يضرب الموج الواجهات الأمامية، وطبعاً تضيف سقسوق: “يجب وضع حد لهذا الأمر من أجل سلامة الناس وتأمين حقهم في السكن، وهنا يجب أن تتدخل البلديات ونقابة المهندسين وغيرها من المؤسسات المختصة كالمؤسسة العامة للاسكان والمؤسسات المعنية العامة التي هي في حالة صمت لافتة ولم نسمع موقفاً واضحاً منها بعد حدوث كل هذه الهزات”.

بدائل السكن في حالات الاخلاء

تشير سقسوق إلى أن الدولة استملكت عام 1965 مئات الأراضي في لبنان لتنفيذ خطة سكنية خماسية تعمّر فيها مشاريع سكنية، لكنها لم تُشَيَّد حتى اليوم مع أن الدولة تملك بحسب وزارة المالية نحو أربعة آلاف عقار مخصصة للسكن. وتسأل: “في ظل الأزمة، ما هي الخطة للافادة من الأراضي التي تملكها الدولة لا سيما أنها مخصصة للسكن بدل الحديث عن خصخصة أصول الدولة وبيعها لانقاذها والمصارف من الانهيار؟ فالدولة تملك اليوم أصولاً عامة وأراضٍ تستطيع أن تستفيد منها في هذه الأزمة لغايات اجتماعية وللصالح العام”.

معايير مقاومة المباني وإشكاليتها

أول معيار يحدد مقاومة المباني هو مرسوم السلامة العامة في لبنان الذي صدر عام 2005، ويحدد معايير السلامة من الزلازل وشروطها ومعايير أخرى لكل المباني التي تنشأ حديثاً وتتطلب في الرخص الخاصة بها اتباعها. ويلحظ المرسوم المباني القائمة ومعايير الحفاظ على سلامتها وماذا يجب أن يفعل مالكوها لتأمين السلامة فيها، خصوصاً أننا نعيش في مدن تاريخية فيها مبانٍ قديمة وعمران يتزايد مع الوقت.

لنقابة المهندسين دور أساس في تحسين المرسوم وتطويره والاشراف على تطبيقه، لكن منذ صدوره حتى اليوم، لا يزال غير مطبق على المباني القائمة بسبب غياب الآليات الادارية والتقنية والقانونية، وهذا خلل أساس، لأن الآلية تنص على أنه إذا قام أحد بإنشاء عمارة أو مبنى جديد ويريد تقديم رخصة، عليه اتباع المعايير المطلوبة وهناك مسؤوليات لتأمين تطبيقها، إنما لا شيء يوضح كيف يمكن أن تطبق كل هذه المعايير على الأبنية القائمة، بالاضافة الى ضبابية قانون البناء من ناحية مسؤوليات الصيانة والتدعيم وخصوصاً المباني التاريخية في منطقة طرابلس والمباني الكبرى في بيروت وكل المناطق اللبنانية.

كما أن قانون البناء ومرسوم السلامة العامة يقولان إن مسؤولية الصيانة والترميم والتدعيم في حال كانت هناك مشكلات إنشائية تقع على عاتق من يملك المبنى. وهنا تقع إشكالية أخرى، ما العمل في الحالات التي لا يستطيع فيها المالك أن يرمم أو يدعّم بسبب الرفض أو غياب الامكانات المادية؟

تشدد سقسوق على وجوب “أن تتحمل السلطات العامة بدورها المسؤولية، لكن القانون ضبابي جداً في هذا الموضوع، فهو ينص على أن المالك إذا تمنّع، من واجب البلدية أن ترمّم على عاتقها إذا كانت المشكلة في واجهة المبنى، لكن إذا كانت إنشائية، فكل ما تفعله البلدية هو أن تطلب من السكان الإخلاء، وتهدم المبنى وهذا حل لا حل، بل ضبابية كبيرة جداً في القانون لأن الموضوع مرتبط عضوياً بالأزمة السكنية في لبنان وغياب الخيارات السكنية. فقبل إخلاء أي شخص للمبنى السكني، يجب تأمين سكن بديل له، والوصول بسرعة الى قرار الهدم، مرتبط أيضاً بثقافة وسياسة الهدم الموجودة في لبنان منذ التسعينيات والتي تمثلت في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت، أي منطق محو الموجود والبناء من جديد وهذه السياسة تفيد تجار البناء، فعندما نهدم، يمكننا إضافة طوابق أكثر ونعلو أكثر على حساب النسيج الاجتماعي وتاريخ المناطق وعلاقات الناس الاجتماعية”.

متى بدأت سياسة الهدم؟

في الثمانينيات، بدأت الجرافات تجرف في الأحياء بعد كل معركة، لتسرّع عمليات الهدم، ويأتي بعدها المقاولون ويشيّدوا المباني ليزيدوا الربح. هذه السياسة التي تمثلت في كيف خطّطنا بيروت ومدناً أخرى كالأوتوسترادات التي تشق الأحياء، ليست تفصيلاً، بل تحولت إلى ثقافة، وقانون البناء ساهم في تسهيل الهدم عندما سمح بزيادة عدد الطوابق، كي يزيد الربح وهذه إشكالية قانون البناء في لبنان.

حصلت تعديلات في الثمانينيات والتسعينيات وآخر تعديل كان عام 2004. وفي كل تعديل، كان القانون يسمح بزيادة عدد الطوابق على الرغم من الاعتراضات غير الكافية، ولذلك، هناك ضرورة ملحّة اليوم لإعادة فتح هذا الملف لأن قانون البناء الحالي لا يراعي المجتمع والنسيج العمراني والاجتماعي، وضبابي في موضوع السلامة العامة ومسؤولية الترميم والتدعيم. وقد اختفت مع الوقت ثقافة الترميم والتأهيل نتيجة هذا السياق.

كيف نحافظ على المباني؟

توضح سقسوق “أننا نستطيع مقاربة كل مبنى من مبدأ كيفية الحفاظ عليه إن كان عبر التدعيم أو عبر حلول إنشائية وكثير من الخيارات. المهم أن تكون هناك سلطة محلية تستطيع أن تخوض هذا الموضوع، وهنا يحصل الخلل الكبير من البلديات التي ترسل إنذارات إخلاء من دون أي خيارات سكنية بديلة أو حلول فعلية.

ويجب أن نوازي بين أمرين، المجتمع بمكوناته المعنية كافة ومنها نقابة المهندسين التي يجب أن تلعب دوراً أساسياً ووطنياً وتقوم بمقاربة مرتكزة على إحصاء شامل مع تأمين حلول واقتراحات قوانين لتطوير مرسوم السلامة العامة، بالاضافة إلى الهيئات المجتمعية والتنظيمات الشعبية والنقابات المعنية لما لها من مسؤولية في مطالبة السلطات بالقيام بواجباتها، لأن الوضع الذي وصلنا إليه اليوم ليس وليد اللحظة، إنما وضع متراكم منذ سنوات الحرب اللبنانية وكل التفجيرات التي حصلت بعدها”.

الحلول الواجب تنفيذها

علينا أن نتكاتف، تقول سقسوق، فهناك مبادرات على الأرض من شبكة المهندسين والمهندسات التي تشكلت من نقابة المهندسين في بيروت والشمال الذين أطلقوا استمارة يطلبون فيها من الناس التي تشعر أن هناك خللاً إنشائياً في مبناها أن تبلّغ كي تتلقى الدعم في هذا الصدد من خلال خطط للضغط على السلطات للتفاعل مع الحلول بعد توجه فريق مختص للكشف على المباني.

وهناك الخط الساخن الوحيد في لبنان للابلاغ عن الهشاشة السكنية (81017023) لمرصد السكن في “استوديو أشغال عامة” خصوصاً أن الناس تعاني من صلاحية سكنها وهي بحاجة الى دعم قانوني وخائفة من أمان المبنى جراء الزلزال أو غيره. يحال الاتصال على محامي/ة لتوفير الدعم القانوني، وإذا احتاج الموضوع الى أكثر من دعم قانوني، تتوافر الجهود لكيفية توفير أي دعم اجتماعي. وإذا كان هناك عدد من الاتصالات من المنطقة نفسها، تتكاتف الجهود باتجاه الاجتماع مع السكان للتفكير سوياً في إرساء استراتيجيات لكيفية الدعم خصوصاً أننا اليوم في أزمة والدولة منهارة. ففي موازاة المطالبات والضغط على السلطات لنستطيع الدفاع عن حقوقنا، يجب أيضاً أن تكون هناك جهود للتكافل والتضامن بين بعضنا البعض لنحمي أنفسنا وندافع عنها في ظل هذا الانهيار الذي يتزايد ويتفاقم ونعيشه منذ أكثر من سنة.

وتؤكد سقسوق ضرورة العمل على سياسات شاملة وعادلة وأن تقوم نقابة المهندسين بالعمل على مرسوم السلامة العامة وقانون البناء وتطويرهما وتغييرهما وتوضيحهما. مطلوب كذلك من البلديات وتحديداً بلدية طرابلس، التحرك بأسرع وقت ممكن من أجل التفاعل مع الكارثة التي تحدث هناك. وعلى المؤسسة العامة للاسكان التعاون مع البلديات والنقابات لنصل الى حل طارئ وآني كي لا تدفع الناس الأكثر تهميشاً الثمن.

شارك المقال