ليلة النصف من شعبان… هكذا كان يُحتفل بفضائلها

زياد سامي عيتاني

تبدأ بعد مغرب اليوم ليلة النصف من شعبان المباركة، التي جرت العادة أن يحتفل بها المسلمون ويصوموا يومها، تقرباً من الله عزّ وجلّ. وهي من الليالي التي إختصها الله تبارك وتعالى بالفضائل والتكريم، وعنها قال رسول الله صلى الله عليهِ وسلم: “إذا كانت ليلةُ النّصفِ من شعبان فَقُومُوا ليَلَهَا وصُومُوا يَومَهَا”.

لذلك، تحتفل الأمة الاسلامية بليلة النصف من شعبان، لما لها من فضائل كثيرة ينتظرها جميع المسلمين في بقاع الأرض ليطلبوا من الله عز وجل أن يغفر لهم ذنوبهم. ولهذه الليلة أكثر من تسمية فيطلق عليها “ليلة البراءة”، “ليلة الدعاء”، “ليلة القِسمة”، “ليلة الإجابة”، “الليلة المباركة”، “ليلة الشفاعة”، “ليلة الغفران والعتق من النيران”.

الاحتفالات عبر التاريخ الاسلامي:

جرت العادة قديماً في سائر البلدان الاسلامية ومدنها أن تقام الشعائر الدينية في المساجد، وكان أبرزها على الاطلاق الاحتفالات الدينية التي كان أهل مكة المكرمة يقيمونها في الحرم الشريف كل عام، وتتبعها من حيث الأهمية الاحتفالات التي كانت تقام في مصر المحروسة.

*إحتفالات الحرم المكي:

– وصف إبن جبير:

واحتفال الحرم المكي بالنصف من شعبان قال فيه إبن جبير في وصفه رحلته: “وهذه الليلة المباركة، أعني ليلة النصف من شعبان، عند أهل مكة معظمة للأثر الكريم الوارد فيها، فهم يبادرون الى أعمال البر من العمرة والطواف والصلاة أفراداً وجماعة، وينقسمون في ذلك أقساماً مباركة، فشاهدنا في الحرم المقدس أثر صلاة العتمة (العشاء)، جعل الناس يصلون جماعات جماعات، تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب وبقل هو الله أحد، عشر مرات في كل ركعة الى أن يكملوا تسليمة بمئة ركعة، قد قدمت كل جماعة إماماً وبسطت الحصر وأوقدت الشموع وأشعلت المشاعل وأسرجت المصابيح ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه، فتلألأت الأنوار في ذلك الحرم الشريف الذي هو نور بذاته، فيما لك مرأى لا يتخيله المتخيل ولا يتوهمه المتوهم! فأقام الناس تلك الليلة على أقسام: فطائفة التزمت الحجر المبارك للصلاة على انفراد، وطائفة خرجت للاعتمار، وطائفة أخرى آثرت الطواف على هذا كله، فكانت من الليالي الشهيرة المأمولة أن تكون من غرر القربات ومحاسنها…”.

– وصف إبن بطوطة:

أما إبن بطوطة فقد ذكر ليلة النصف من شعبان في وصف رحلته بقوله: “وهذه الليلة المعظمة عند أهل مكة فيبادرون فيها الى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفذاذاً والاعتمار، ويجتمعون في المسجد الحرام جماعة، لكل جماعة إمام ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل، ويقابل ذلك ضوء يتلألأ في الأرض والسماء نوراً ويصلون مئة ركعة يقرأون في كل ركعة بإم القرآن وسورة الاخلاص يكررونها عشراً، وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار”.

إحتفال مصر المحروسة:

أما الاحتفال الرسمي بليلة النصف من شعبان فيعود إلى العصر الفاطمي، حيث يبدأ بعد صلاة الظهر بخروج قاضي القضاة في موكب كبير إلى مكان جلوس الخليفة، وتكون قد سُدت الطريق ورُشت بالرمل في الوقت الذي يكون قد إصطف فيه جنود الوالي على جانبيها.

وعاد الاهتمام بهذه المناسبة في عصر المماليك، بالاحتفال بها في حوش القلعة الكبيرة، وإقامة الزينات والولائم وتوزيع الصدقات على الفقراء، بحيث تسير المواكب وتنشد الأناشيد وكانت تضرب خيمة عظيمة في حوش القلعة. ويبدأ الاحتفال بقراءة القرآن، ثم يأتي الوعاظ والمنشدون، فإذا ما إنتهى كل منهم دفع إليه السلطان بصرة فيها دراهم من الفضة، وحينما تنقضي صلاة المغرب تمد الأسمطة فيأكل الجميع ويوزع منها على الفقراء.

الاحتفال في بيروت:

وفي بيروت، جرت العادة منذ القدم أن يحتفل أهلها بليلة النصف من شعبان من خلال إقامة الاحتفالات الدينية التي كانت تعم جوامعها وزواياها وتضاء مصابيحها وأنوارها فتبدو كالنجوم النيرات التي تشع في سماء المدينة وتبدد جيش الظلام.

وكان المسجد العمري الكبير في باطن بيروت أي داخل سورها خلف أبوابها السبعة، يشهد الاحتفال الديني المركزي في ولاية بيروت بمشاركة مفتيها وقاضيها الشرعي ونقيب الأشراف وكبار المأمورين في دار الولاية ووجهاء القوم وكبارهم.

واختيار المسجد العمري الكبير لاقامة الاحتفال المركزي كانت له دلالته نظراً الى أهميته التاريخية، فضلاً عن كونه الجامع الأكبر الذي يتوسط المدينة، فهو يعتبر أقدم الأبنية الأثرية في بيروت، حيث كان يعرف في الماضي باسم “مسجد سيدنا يحيى” ثم “مسجد فتوح الاسلام”، الى أن أطلق عليه اسم “الجامع العمري الكبير” تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب. وكان يشارك في المراسم الرسمية للمناسبة فيه، رئيس الحكومة ومفتي الجمهورية اللبنانية (تحديداً عندما تولى منصب الإفتاء المفتي الراحل محمد توفيق خالد والمفتي الشهيد حسن خالد) والوزراء والنواب والسفراء والعلماء الأجلاء وقضاة الشرع وجموع المؤمنين.

وكانت ترفع الللافتات التي تكتب عليها الآيات القرآنية والعبارات المعظمة للذكرى، وتنصب سعف النخيل وأقواس النصر وتعلق الزينات، وتضاء الشموع والقناديل والفوانيس على مدخل الجامع وفي محيطه، وتستقدم الفرقة الموسيقية الكشفية لتعزف الأناشيد الحماسية والوطنية، ترحيباً بالشخصيات الرسمية والضيوف.

وداخل الجامع كان يتضمن الاحتفال تلاوة عطرة من القرآن الكريم لشيخ قراء بيروت، وكلمة لسماحة مفتي الجمهورية، وأخرى للمدير العام للأوقاف، تتبعها كلمة لإمام المسجد، وتقام الصلاوات، وترفع الأدعية والأذكار والأوراد تضرعاً لله تعالى، كذلك تتلى السيرة النبوية الشريفة.

وكان يتخلل كل فقرة من فقرات الاحتفال المدائح النبوية والأناشيد الدينية التي لها وقعها الخاص في هذه الليلة المشهودة، فالإنشاد الديني له مكانته المميزة ونكهته الساحرة في نفوس المؤمنين، الذين كانوا يذوبون في حضرة مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أصوات المنشدين الشجية التي تهز القلوب خشوعاً ورهبةً وتملؤها نفحات روحية وإيمانية، تقربهم من الله سبحانه وتعالى. فكانت تمتلئ أرجاء الجامع بحالة مفعمة بالإيمانيات والروحانيات، التي تخشع لها القلوب المملوءة بالتقى والورع.

يتبع: الجانب الاجتماعي وحلو “المشبك”.

شارك المقال