بيوت الله في بيروت، تاريخ بناء مساجدها وزواياها (1)

زياد سامي عيتاني

يكاد يكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تقديم معلومات دقيقة أو مفصلة عن المساجد والزوايا التي كانت موجودة في بيروت في أول عهد هذه المدينة بالإسلام، من دون أن يعني ذلك أن بيروت كانت في تلك الأيام، خالية من المساجد أو محرومة من بيوت الله.

فالمعلومات عن مساجد بيروت التي أنشئت في صدر الإسلام معدومة بالكامل إذا ما استثنينا “المسجد العمري الكبير” و”مسجد الامام الأوزاعي”، لأن المصادر التاريخية التي تناولت تلك الفترة لم تتطرق الى مساجد بيروت، إلا ما خلا الخطيب البغدادي الخراساني، الذي أشار الى أن الامام الأوزاعي كان مؤذن وإمام مسجد أهل بيروت، علماً أنه قدم الى بيروت في العهد العباسي.

أما ما هو متوافر من معلومات عن مساجد وزوايا بيروت الشريفة، فمقتصر على ما أنشئ منها أيام المماليك وفي العهد العثماني، حيث أن بعضها لا يزال قائماً حتى أيامنا، وهي مختلفة المظهر في هندستها المعمارية، التي تجمع بين الطرازين المملوكي والعثماني، مع مراعاة الطابع العربي الاسلامي التقليدي.

ومن الأسباب التي أدت إلى إندثار مساجد بيروت التي هي من آثار الفتح الاسلامي، الزلازل التي ضربت المدينة، إضافة إلى إقدام الافرنج لدى غزوهم بيروت سنة 1110 ميلادية على تدمير المنشآت الدينية الاسلامية كافة، ما عدا “زاوية الامام الأوزاعي” على مدخل “سوق الطويلة”.

فعلى الرغم من أن المؤرخين القدامى لم يتركوا لنا شيئاً من المعلومات عن الجوامع التي كانت في بيروت خلال تلك الحقبة البعيدة من الزمن، فإن الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى في دمشق سنة 1421ﻫ (1730 م) في رحلته التي دوّن وقائعها في كتاب سماه “التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية” سنة 1112ﻫ (1700 م) كتب عن مساجد بيروت في أيامه:

“… والجوامع بها أربعة: الجامع الكبير، جامع الأمير منذر، جامع الأمير عساف والرابع: جامع البحر، ويسمى جامع العمري، لأنه كما هو مشهور عندهم (أي عند البيروتيين) من زمان عمر بن الخطاب، وهو أصغر من الجوامع التي في بيروت، ومرتفع، مطل على البحر، يصعد إلى فنائه بسلم حجر نحو خمس عشرة درجة، ثم يصعد إليه بدرج آخر ثماني درجات…”.

وللإحاطة الشاملة والكاملة بتاريخ وسير المساجد والزاوية الشريفة في بيروت، ينبغي التمييز بين المساجد والزوايا.

فالفكرة الدينية التي قامت على أساسها الزوايا كمركز للتقوى والورع، تعود بدايتها إلى أنظمة الصوفيين وطرقهم، والذين يشكلون جماعات عرفوا بالورع والزهد والرجوع إلى الُسنَّة في بساطة العيش وسمو الغاية.

والزوايا تختلف عن المساجد بتواضع بنائها وصغر حجمها وخلوها من المآذن والمنابر والقبب، وهي غالباً ما تكون عبارة عن غرفة واحدة.

فالصوفيون يشكلون حركة زهدية قامت في القرن الأول للهجرة، ويمتازون بطريقتهم الخاصة في الحياة والمعيشة والابتعاد عن الدنيا حباً بالآخرة. ويقال إن أول من أطلق عليه لقب “الصوفي” هو أبو هشام الكوفي الذي إنقطع إلى الله وإنفرد بخدمته، وأسس زاوية للتصوّف في فلسطين.

وللصوفية تعاليم متوارثة يتلقى أتباعها العلم الروحي على يد مرشد الأوراد، ويعلمهم إقامة الأذكار حتى يحصوها جميعاً، فيسلمهم إجازة، هي بمثابة شهادة.

وكان للزوايا فيما مضى شأن عظيم، وكانت مشيخة الزوايا من المناصب المرموقة، وتوكل الى الشيخ بموجب فرمان من صاحب السلطان. كما كان لكل زاوية شيخ وإمام ومؤذن ومتولٍ وخادم.

أما المساجد فهي تتسم بكبرها وإتقان عمارتها وزخارفها وهندستها، فضلاً عن عناصر تكوينها كالمنابر والمحارب والمآذن والقبب والأورقة والصحون والمقصورات والسدود والمرافق الصحية والميضأة.

وعلى الرغم من أن عدد المدارس الدينية التي بناها المماليك في طرابلس وحدها، بلغ حوالي 300 مدرسة، فإن هؤلاء لم يبنوا في بيروت إلا عدداً قليلاً من هذه المدارس إلى جانب عدد من المساجد العادية. وحتى هذه المنشآت الدينية القليلة لم تكن في الواقع، من عمل الحكام المماليك أنفسهم، وإنما هي من العمائر التي شادها الحكام المحليون في بيروت وغيرهم من أعيان هذه المدينة في ذلك العهد.

وإذا تجاوزنا “الجامع العمري الكبير”، فإننا نجد أن مساجد وزوايا بيروت في أيام المماليك كانت التالية: “جامع الدباغة”، “زاوية البدوي”، “جامع شمس الدين”، “زاوية التوبة”، “زاوية المغاربة”، “زاوية المجذوب”، “زاوية الحمرا” و”زاوية الشهداء”.

أما عندما دخل العثمانيون بيروت، فكانت فيها المساجد التي بنيت في أيام المماليك، لكن أحداً من سلاطين آل عثمان لم يبنِ في هذه المدينة جامعاً أو زاوية أو مدرسة دينية، على أن هذا لا يمنع من الاشارة إلى أن بعض ولاتهم في بيروت ساعدوا على بناء بعض المساجد في هذه المدينة أو رممّوا بعضها الآخر أو جددوها.

فكل ما هو قائم في بيروت من المساجد التي ترجع في وجودها إلى العهد العثماني، إنما هو من عمل أهل بيروت أنفسهم الذين كانوا يتنادون من حين لآخر إلى بناء مسجد في هذه المحلة أو تلك، وذلك تلبية لحاجة السكان الذين كانوا يتزايدون مع الزمن وتعاقب الأيام.

ولعل أول زاوية بنيت في بيروت بعد دخولها في حوزة الدولة العثمانية، هي “زاوية إبن عراق” التي إشتهرت باسم “زاوية الشيخ محمد خضر العراقي” على مدخل “سوق الطويلة” بالقرب من “زاوية الامام الأوزاعي”.

ثم توالى بناء المساجد والزوايا في بيروت في أيام العثمانيين، تبعاً لإنتشار البنيان وازدياد عدد السكان. ومن أقدم المساجد التي شيدت فيها خلال هذه الفترة، “جامع الخضر” في المحلة المعروفة باسم “الكرنتينا”، بالقرب من مصب نهر بيروت.

أما أبرز المساجد التي بُنيت في الحقبة العثمانية فهي:

– “جامع دار الولاية”: المعروف بـ”جامع الأمير منصور عساف”.

– “جامع النوفرة”: هو الجامع المعروف اليوم باسم “جامع الأمير منذر”.

– جامع “المجيدية”.

– جامع “الباشورة”: يعرف اليوم باسم جامع “البسطة التحتا”.

إضافة إلى المساجد التي بنيت في الحقبة العثمانية، كانت هناك نشأة للعديد من الزوايا الشريفة في باطن بيروت، وذلك لكثرة المتعبدين والزهاد فيها، الذين إندفعوا إلى تشييد الزوايا وإرتيادها.

والزوايا التي كانت قائمة في تلك الحقبة هي: زاوية “المجذوب”، زاوية “الراعي”، الجامع “المعلق”، زاوية “القصار”، زاوية “سوق البياطرة”، زاوية “سوق القطن”، زاوية “باب الدركة”، زاوية “المغاربة” وزاوية “باب المصلى”.

وبما أن لمساجد بيروت الجامعة وزواياها الشريفة تاريخاً وسيراً، فإننا سنتناولها تفصيلياً تباعاً، للتعريف والاضاءة على أبرز المعالم الإسلامية ذات الطابع التراثي في مدينة بيروت العريقة والأصيلة بجذورها الإيمانية وتقى أهلها وسكانها.

شارك المقال