“المسحراتي” في طرابلس… تقليدٌ رمضاني غير قابل للاندثار

إسراء ديب
إسراء ديب

لا تمر ليالي رمضان الطرابلسية، إلّا بوجود “المسحراتي” الذي لا يرتبط وجوده بسنّة نبوية أو فرض إسلاميّ، بل هو تقليد موروث لا تستغني عنه الفيحاء على الرّغم من انتشار التكنولوجيا والمنبهات المتنوّعة لايقاظ الصائمين. إلا أنّ “المسحراتي” بصوته الذي يصدح في الشوارع والأحياء وبطبلته التي يعزف عليْها لتُسحر نفوس المؤمنين، يُضيف “هالة” إيمانية تُؤكّد عاماً بعد عام أنّها غير قابلة للاندثار.

يُمكن القول إنّ الطقوس الرمضانية في طرابلس وعلى الرّغم من الأزمات الاقتصادية الخانقة لا تزال تفرض نفسها، حتّى بعد تزايد أعداد القاطنين في المدينة لا سيما مع النزوح السوري منذ أعوام.

إلا أنّ هذا الاكتظاظ الذي بات اعتيادياً لم ينعكس إلّا بإيجابيات على هذه الطقوس التي كانت تقتصر على عائلات معيّنة في المدينة تحظى بتأييد من أهالي المدينة ودار الفتوى شمالاً، أبرزها: آل القدوسي، اللوزي، البيروتي، الزاهد، الغندور وغيرها من الفرق والشخصيات التي يتسلم كلّ منها نطاقاً جغرافياً محدّداً في المدينة، ولكنّها باتت شاملة أكثر وتتضمّن عائلات إضافية، البعض منها من السوريين الذين كان لهم الفضل أحياناً في نشر هذه الطقوس في بلدات شمالية لم تعتد على هذه الممارسات التي تحمل طابعاً دينياً وتاريخياً لا يُستهان به، إذْ كانت ترى أنّ هذه الطقوس بدعة أو موروث اجتماعي لا يمتّ الى الإسلام كدين بصلة، إلا أنّ القيام بهذا التقليد سنوياً، بات مقبولاً لدى الكثير منهم مع التكرار ونظراً الى الأجواء الدينية التي يبثها “المسحراتي” بأناشيد دينية وأهازيج مع ذكر الله ورسوله بمدائح إيمانية.

وقد يرى البعض أنّ التعدّد العائلي والفرديّ يزيد من العشوائية والفوضى كما قد يُهدّد هذا الطقس، خصوصاً أنّه أصبح مهنة يعتاش منها البعض لا سيما حينما يُقبل الصائم على تقديم الحلويات أو الأموال لـ”المسحراتي”، لذلك يُطالبون بضرورة الحدّ من هذه التدخلات واقتصار التسحير على عائلات أوكلت القيام بهذه المهمّة منذ أعوام للحفاظ عليها قدر المستطاع.

يُمكن تعريف “المسحراتي” بأنّه الشخص الذي يتحمّل مسؤولية إيقاظ المسلمين لاعداد السحور قبل آذان الفجر بزهاء ساعتين، والصحابيّ الجليل بلال بن رباح كان أوّل مسحراتي في العهد الاسلامي ومعه ابن أم مكتوم، أمّا عنبسة بن اسحاق (ســنة 228 هـ) فكان أول من نادى بالتسحير في مصر، وتطوّع بنفسه لايقاظ الصائمين حيث “طاف على ديار مصر لإيقاظ أهلها للسحور”، بينما أوّل من استخدم الطبلة لهذه الغاية كانوا أهل مصر وفق المراجع التاريخية.

ولم يتوقف هذا التقليد، بل استمرّ لعهود إسلامية عدّة كالفاطمية والعباسية مع تطوّرات مختلفة طرأت عليه من حيث الشكل والمصطلحات التي يُطلقها وباتت معروفة أبرزها: “يا قايم فيّق النايم”، “يا نايم وحد الدّايم”، “قوموا على سحوركم جاية النبي يزوركم” أو “رمضان يزوركم”… وبات “المسحراتي” أيضاً يلبي في الكثير من الأحيان، طلب بعض الأفراد الذين ينتظرونه لتلقينه أدعية معيّنة إمّا عبر التحدّث معه مباشرة عبر النزول إلى الشارع لدى مروره في الحيّ، أو انتظاره عند الشبابيك أو الشرفات للتحدّث معه من الأعلى.

وفي السكون والظلام الأسود الذي تعيشه طرابلس، يخترق “المسحراتي” هذه الأحياء التي تتمسّك بكلّ ما يرتبط بعقيدتها، على الرّغم من شدّة الظلمات التي يُواجهها أبناء هذه المدينة في دولتهم، إذْ يُعدّ شهر رمضان من الفجر إلى الفجر، عالماً آخر يفرح الطرابلسيون بحلوله نظراً الى شعورهم ببركته التي تحلّ عليهم منذ لحظة دخوله الى حياتهم، ولهذا السبب يفرحون بقدوم “المسحراتي” وسماع صوته ولو من بعيد، بلباسه الذي غالباً ما يكون على شكل دشداشة بيضاء، في وقتٍ يرتدي فيه البعض وتحديداً من الصوفيين اللباس القديم للمسحراتيين، وهو عبارة عن الدشداشة الزرقاء، مع شال أبيض بنقوش خضر أو دشداشة بيضاء بشال وقبعة خضراء وذلك حسب بعض المواطنين.

وجرت العادة في المدينة، أن يجول “المسحراتي” في الطرقات وحيداً أو رفقة أحد أبنائه، وقد يجول مع مجموعة من المنشدين ليسمع المتلقون مناجاتهم الدينية التي يُغلقون من أجلها هواتفهم أو يضعون شاشات تلفزتهم على الوضع الصامت للإنصات إليها لشهر كامل، لا يودّ أحدهم أن يمضي من دون هذا الطقس الذي أقلّ ما يُمكن وصفه بأنّه “إيقاع الشهر الفضيل”، وبالاستمرار عليه يعود الصائم بذاكرته إلى الزمن الجميل حيث الهدوء والسكينة الايمانية.

شارك المقال