“عتيقك بدو يفيدك”…. الكندرجي يصلح أحذية أفسدها الدهر

جنى غلاييني

“لا ترمه بكرا مناخدو عند الكندرجي”، عبارة صارت تتكرر في كل بيت على ألسنة الأمهات اللواتي يدرن ميزانية الصرف العائلي بصعوبة مع تصاعد الأزمة المعيشية، بحيث لم يعد بإمكان أحد تقريباً شراء حذاء جديد أو لباس ضروري حتى من سوق “البالة” أو ما يسمى outlet أو حتى صناعة لبنانية التي صارت موازية لاسعار البضائع المستوردة بالدولار.

حذاء الـــ 500 ألف ليرة العادي المواصفات أصبح يتخطّى حدود راتب الموظف اللبناني، فبات الحل الأنسب اللجوء إلى مصلح الأحذية “الكندرجي” وهي مهنة كاد اللبناني ينسى وجودها ولا يلجأ إلى محترفيها إلا نادراً، لكنها عادت إلى الازدهار اليوم لتحل مشكلة توفر على الجيب الكثير، وتعيد للحذاء الممزق إمكانية استهلاك اكبر عن طريق ترقيعه بكلفة لا تتجاوز الخمسين ألفًا.

فبعد ركودٍ دام لسنوات، عاد “مصلحو الأحذية لمزاولة مهنتهم بشكل مكثف، الحرفة المتعبة التي كادت تنقرض مع موجات الاستهلاك التي عرفها المجتمع اللبناني ومن الصعب في الأفق المقبل أن نشهد عودتها”.

حرفة التعب لا تؤمن لقمة عيش

“هذه المصلحة أكلت عمري”.. بهذه الكلمات اختصر الحاج علي نصّار تعبه كل تلك السنين، إنّها الحرفة التي يمارسها الحاج علي المعروف بــ”أبو وسام” والذي يبلغ من العمر 62 سنة في منطقة حي اللجا، منذ أكثر من 45 سنة.

يقول أبو وسام لـــ “لبنان الكبير”: “قديماً كانت هذه المصلحة لا تكفي لتأمين لقمة عيش كريمة، حيث كنا نعمل في هذه المصلحة والمردود قليل جداً، حتى وصلنا إلى مرحلة لم يعد لهذه المهنة أي قيمة، لكن يمكننا القول إن الحياة عادت لــ”الكندرجية” العاملين في الأسواق الشعبية، وهذا مع الاسف بسبب غلاء المعيشة الذي يشهده أبناء وطني غير القادرين على شراء حاجاتهم الكماليّة كالأحذية والجزادين التي كانوا قد تعوّدوا على إتلافها حين تتمزّق، ولكن الآن أصبحوا يلجؤون إليّ لإصلاح الجزادين وتحصين الأحذية لزيادة صلاحية استخدامها”. ويضيف: بحسٍّ فكاهي: “عتيقك بدو يفيدك”.

لم يكن أبو وسام ليعلم أن لهذه الجملة زمانها، ففي ظلّ الظروف القاسيّة التي تعصف بلبنان، ومع الارتفاع المخيف لسعر صرف الدولار، لم تسلم هذه الحرفة من التهديد الذي يطال وجودها. فجميع المواد الأساسيّة للمهنة مستوردة، إذاً كيف لأبي وسام الذي يعمل يومياً ليعيل أولاده، أن يؤمّن “الكنز” الأخضر وقد شحّ وجوده؟.

أبو وسام، ذاك الرجل الذي خانته دمعته وذرفها أثناء حديثنا عن الحل، يصوّر واقعنا بمرارة عيشه، مواطن يهرع لإصلاح حذائه الذي مرّ عليه الزمن وهو على علم بصعوبة أمره، يعطي لنفسه شرف المحاولة خوفاً من التردّد على “البالة” التي أصبحت تنافس الأسواق التجاريّة بارتفاع أسعارها.

فقد أوضح “لا تقولوا المصلحة تحسّنت جراء الأوضاع المأساوية، ولكن أصبح هنالك (إجر) على المحل، أي ممكن القول إن الشغل زاد شيئاً بسيطاً ولكننا على حالنا كما عهدتمونا”.

أبو وسام ورحلته مع الزبون

فتكت الأزمة اللبنانيّة باللبنانيين أجمع حتى باتت الحرفة تمارس بهذا الشكل: “الزبون أصبح يعطيني حذاءً لا بد من رميه في الزبالة، ولكن كوني كندرجياً أحاول قدر المستطاع أن أعيد الحياة لهذا الحذاء مضيفاً بعض لمساتي الفنية في تصميم شكله من جديد، وفي المقابل لا آخذ اكثر من 15 ألف ليرة لأنني أشعر مع أخي المواطن الذي ما عاد قادراً على شراء حذاء من الأسواق التجارية الذي كان يبلغ سعره 50 أو 60 ألفاً والذي أصبح سعره الآن 600 أو 700 ألف، هذا غير أسعار الأسواق الشعبية التي كان سعر الحذاء فيها 15 ألفاً وأصبح الآن يساوي 150 ألفاً”.

وبكل أسى يصف أبو وسام وضعه الحالي: “أنا كنت أصنّع أحذية وأقوم ببيعها، ولكن الحكّام الزعران لا يسمحون لنا لا بتصنيع سلع وطنية ولا بأن نتنفّس حتّى، إذ قاموا بفرض ضرائب ورفع الدعم عن كل شيء وأصبحنا غير قادرين على الاستيراد، رغم كل هذا فتحوا لنا حدود سوريا، فكيف لنا أن نصنّع في لبنان وهناك بضائع سورية تغطي على البضائع المحليّة من حيث السعر، لذا أنا أضطر في كل مرّة إلى استيراد ما احتاج إليه من سوريا”.

إنّ الآلة التي يعمل بها أبو وسام لتصليح أحذية الزبائن تحتاج إلى صيانة كل 4 أشهر على الأقل والتي كانت ولا زالت تكلفة تصليحها 40 دولاراً على سعر صرف الدولار، لذا يلجأ في بعض الأحيان إلى صيانتها سنويّاً، ويضطر إلى زيادة تسعيرة تصليح أحذية الزبائن شيء بسيط جدّاً، وذلك ليس طمعاً بالمال، بل لكي يستمر بكفاحه كما يقول.

يلاحظ أبو وسام كونه “كندرجي” أنّه الحل الأنسب أمام زبائن الطبقة الغنية “الأغنياء لم يعودوا قادرين على التفريط بأحذيتهم ذات الماركات العالمية، فيقومون بارتياد محلّي وطلب تصليحها رغم احتياجها إلى مواد أساسية عالية الجودة كالجلد وغيره”.

ينظر الجيل اللبناني الحالي لهذه الحرفة إجمالا بدونيّة، كونها لا تعطي قيمة لصاحبها الذي يقوم بتصليح (صبابيط العالم)، وهذا المعنى كفيل بإيصال فكرة عدم رغبة شباب لبنان بامتهانها.

وأمام أزمة الكهرباء التي عصفت بلبنان أشدّ من كل مرّة، لم يعد أبو وسام قادراً على دفع الاشتراك مع العلم أن كل آلات التصنيع في المحل تحتاج إلى كهرباء.

وفي حديث مع إحدى زبائنه تقول أم علي: “أنا ربة منزل ولدي 4 اولاد وبالكاد أستطيع تأمين المواد الغذائية لإطعام أولادي، فكيف لي بتأمين ثياب وأحذية لهم جميعاً، هذا ما يجعلني أقوم بتصليح أي سلعة كمالية متوافرة في المنزل لعدم اضطراري لاحقاً لشراء أي قطع جديدة من السوق والتي باتت أسعارها تحلّق في الفضاء”.

وأفادتنا زبونة من الطبقة الغنية: “بصراحة كنت سابقاً أرمي أحذيتي وجزاديني المهترئة أو القديمة، فلكل شيء صلاحية انتهاء، أمّا في ظل هذا الوضع فأنا أحث الجميع على عدم إتلافها واللجوء إلى الكندرجي الذي لم أكن أعلم به لولا تلك الأزمة”.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً