آثار الحروب لم تُمسح عن طرابلس… وخطر انهيار الأبنية كابوس!

إسراء ديب
إسراء ديب

يطرح الآلاف من الطرابلسيين أسئلة مختلفة على المعنيين منهم والحكوميين، عن سبب إهمالهم لملف الأبنية المتصدّعة في المدينة والذي لا يقلّ خطورة عن أيّ ملف آخر يستدعي التدخل الطارئ والسريع لإنقاذ السلامة العامّة المهدّدة في أيّ لحظة نتيجة “تراكمات” الاهمال، المعارك والرطوبة التي قد تُؤدّي إلى انهيار مبانٍ يصعب التعويض على أصحابها لا سيما في ظلّ الظروف الاقتصادية المتردّية.

ولم يكن تعميم محافظ طرابلس والشمال القاضي رمزي نهرا منذ أيّام، سوى تذكير بأهمّية هذا الملف المهمل على الرّغم من النقص الاجرائي والمعلوماتي المرافق للتعميم، إذْ طلب نهرا من البلديات “إجراء مسح شامل للأبنية المتصدّعة كافة واتخاد الاجراءات اللازمة حفاظاً على السلامة العامّة وسلامة الجوار”، وذلك بالتنسيق “عند الاقتضاء مع المكاتب الفنية العائدة للتنظيم المدني أو المكاتب الفنية العائدة لاتحادات البلديات”.

وينتقد مصدر بلديّ التعميم الذي يستكمل تعميمات سابقة، بحيث يُؤكّد لـ “لبنان الكبير” أنّه “جاء من دون أيّ خطّة مؤازرة في مدينة كاملة، فإذا لم تتعاون معنا فرق هندسية من الجيش أو فريق من المهندسين بالتعاون مع النقابة أو بمؤازرة من المعنيين، فمن الصعب تحقيق الأهداف في وقتٍ قصير، وبالتالي إنّ اللجوء إلى مهندسين من الخارج يحتاج إلى قرارات بعد اجتماعات للمجلس البلدي وتخصيص أموال أيّ أنّ الأمر ليس سهلاً”، قائلاً: “من يبحث عن حلّ لمشكلة طارئة، فليضع لها خطّة سريعة لتنفيذ الدراسة وما سيصدر عنها، وحتّى الآن لم نر شيئاً، فلم تشكل هيئة لادارة الكوارث، ولا فريق لادارة الملف، ولا ميزانية أو صندوق ليتحرّك معه نواب المدينة”.

إنّ “القنبلة الموقوتة” التي تُهدّد طرابلس مع أيّ قصف محتمل، زلزال أو هزّة، لم تدفع نواب المدينة إلى التحرّك جدّياً ودورياً لسدّ هذه الثغرة التي ستُؤدّي حتماً إلى كارثة إنسانية، إذْ عمد عدد منهم في شباط الماضي، إلى إنشاء صندوق لترميم الأبنية المتصدّعة برئاسة النائب السابق رامي فنج، ومع أنّ هذا الاجتماع كان من المفترض أن يجمع نواب المدينة من جديد لترقب النتائج، الا أنه لم يُثمر أيّ خطوة فعلية.

من هنا، يقول مصدر سياسي لـ “لبنان الكبير”: “إنّ الاجتماع الذي لم يُشارك فيه كلّ نواب المدينة، كان مثله مثل أيّ اجتماع آخر، عبارة عن تصريحات إدانة ومطالب وعرقلة لا تستوجب منهم أيّ حركة إلّا بالاسم تجنّباً لتحمّل المسؤولية بعد الهزات الارتدادية، وبالتالي إنّ الانقسام الذي يعيشه نواب طرابلس وتراشق المسؤوليات بينهم من جهة، ووجود بعضهم بالاسم من جهة ثانية، إضافة إلى التحجّج بالظروف المالية وعدم متابعة الملفات سياسياً وشعبياً عن كثب، أوصلنا إلى جمود قاتل”، في وقتٍ يُخفي فيه المعنيون نتائج المسح، كما الأموال التي رصدت لهذا الصندوق حتّى اللحظة وعدم سعيهم الى الحصول على منحة أو هبة للعمل، مع تغييب المتخصّصين في هذا المجال عن المشهد.

المباني الباطونية

لا يُخفي عضو مجلس البلدية ورئيس لجنة الآثار والتراث فيها، المهندس المعماري خالد تدمري أنّ طرابلس تُعاني من خطر تصدّع الأبنية فيها وانهيارها، سواءً أكانت أبنية تراثية أثرية، أم أبنية باطونية في وقتٍ تغيب فيه الاحصاءات لتسجيل عدد المباني المهدّدة.

وعن الأبنية الباطونية التي تعود إلى منتصف القرن الماضي، يُؤكّد أنّ المشكلة متراكمة بسبب الاهمال، وعدم الصيانة، والإنماء غير المتوازن الذي لم تأخذ طرابلس حصّتها منه، ويقول لـ “لبنان الكبير”: “عقب الحرب اللبنانية، أنشئت وزارة المهجّرين التي قامت بإعادة إعمار القرى حتّى النائية منها في جبل لبنان، فمسح وجه الحرب عنها، أمّا طرابلس فلم تأخذ حصّتها من هذا الصندوق والوزارة، واكتفت بمشروع الحريري في القبة بين جبل محسن والتبانة، فكان مشروعاً سكنياً نقلت إليه مجموعة ممّن فقدت منازلها في المعارك ضمن المنطقة، لكن ما تبقّى في باب التبانة، جبل محسن، القبة، ضهر المغر، باب الحديد، باب الرمل ومناطق المدينة القديمة التي تصدّعت فيها الأبنية بصورة كبيرة بسبب الحرب وسقوط الصواريخ عليها في معارك عدّة كالمعركة التي أخرجت الرئيس ياسر عرفات من طرابلس وما تبعها من معارك بين أحزاب محلّية والجيش السوري، كلّها لم تعالج آثارها في المدينة ولم يقم وزير أو نائب بالمطالبة بها”.

يُمكن التأكيد أنّ الأبنية في باب التبانة ذات الكثافة السكانية والعمرانية الأعلى لا في طرابلس وحسب، بل على ساحل البحر المتوسط، تُعد الأخطر، “وهي عبارة عن أبنية باطونية ذات نوعية سيئة، أنشئت منذ فترة الستينيات ونهاية القرن العشرين، بطرق متواضعة وبسيطة لتلائم ميزانية النازحين من الأرياف المتجهين إلى المدينة ليستوطنوا فيها، فشكّلت أحزمة بؤس في مدخل المدينة الشمالي أيّ باب التبانة، ومدخلها الجنوبي (محرّم)، وإذا رصدنا أبي سمراء والمناطق الممتدة إلى الضنية كالشلفة وغيرها، فكلّها أحزمة بؤس بأبنية رديئة سواءً أكانت المرخصة التي تُعاني من التشققات والتصدّعات بسبب نوعية الباطون وتسرّب المياه الآسنة أو الجوفية إلى طبقات تحت الأرض ما يُؤدّي إلى تآكل أعمدة المبنى وغالبيتها في باب التبانة، وهي بحاجة الى خطّة طوارئ لانقاذها، أو الأبنية غير المرخصّة كتلك الموجودة في الشلفة عند مجرى نهر أبو علي، والتي بنيت على تربة ضحلة وقابلة للانزلاق”. 

المباني التراثية

الأبنية التراثية الممتدّة منذ القرون الوسطى إلى ما قبل مطلع القرن العشرين والتي من المفترض أن تكون “مصانة” قانونياً من الهدم، فتُعدّ أفضل بكثير من الباطونية لأنّها قائمة في طابقها الأرضي على عقود حجرية متماسكة مع تلاصق أبنيتها ما يمنع تأثير الهزات عليها، أمّا المشكلة فتكمن في طوابقها العلوية التي فقدت القرميد أو السقف لأنّها من دون عقود حجرية تربطها بالأعلى، بل حوائط حجرية متماسكة بأسقف خشبية اهترأت بفعل عوامل الرطوبة، ودخول الصواريخ وبالتالي دخول المياه إلى المبنى، وهي نوعان: المدينة القديمة المسجلّة برمّتها ضمن حدود خريطة يُمنع المساس بها، والأبنية التراثية خارج هذه الحدود مثل مبنى المير في الزاهرية، ساحة التل، شارع المطران، مطلع شارع عزمي، مناطق تصل إلى شاعر العجم، ساحة الكورة، ضهر المغر، وهي مناطق محيطة بالمنطقة القديمة بعض معالمها مصنّفة بأنّها تراثية ما يمنع هدمها.

ولا يغفل تدمري عن أهمّية تحديد خطّة من وزارة الثقافة المعنية عبر المديرية العامّة للآثار، لتدعيم هذه الأبنية والاسهام مع أصحاب الملاك في ترميمها بعد دعمهم وفق القانون اللبناني الذي لم يُطبّق لعدم وجود الدعم وبسبب قانون الإيجار الذي لا يُساعد الملاك على الترميم المكلف، بينما في مناطق أخرى يُعمل على تأمين منح ترميم المدن أو إدخال شركات خاصّة لاستثمارها، “الشيئ الوحيد الذي تمّ ترميمه في المدينة، هو واجهات المباني الخارجية ضمن مشروع الارث الثقافي الذي صرف أكثر من 30 أو 40 مليون دولار لترميم واجهات الأسواق بحجّة أنّها أملاك عامّة تطلّ على السوق، أمّا المبنى من الداخل فلا يعنيهم لأنّه أملاك خاصّة، فحصلت عملية “ماكياج” خارجيّة لمبانٍ تُعاني من تآكل داخلي مع صبّ سقف نهر أبو علي ثانياً أيّ التشويه الدائم فوق سطح النهر على مسافة 300 متر”.

يُمكن القول إنّ المشكلة تكمن في عدم معرفة قيمة المبنى الأثري الذي بات عبئاً على عدد الورثة المتزايد له، لذلك يتخلّصون منه عبر فئة من تجار البناء تُحاول استهداف هذه الأبنية، فتتجه إلى شرائها بطرق التفافية على القانون وتُحاول إسقاط المبنى عبر فكفكة الحجارة واللعب بدعاماته لتحصل على قرار بشطبه من لائحة الآثار واستبداله بجديد، ما يُكسبها مالاً مع بيع حجارته والنزول أسفل الأرض طابقين أو ثلاثة وبيع الرمل من تحت الأرض، وفيما بعد تستفيد من قانون البناء لتبني ست طبقات مثلاً، إذا كانت في المنطقة الخارجة عن المدينة التاريخية”.

إنّ المدينة التي تعرّضت لزلزال في ستينيات القرن الماضي دمّر أجزاءً من أحيائها خصوصاً في الميناء ما أسّس الحارة الجديدة، وطوفان نهر أبو علي الذي أسّس حيّ المنكوبين بمشروع لم يستفد منه الطرابلسيون الذين سكنوا في خان العسكر مؤقتاً ريثما ينتهي، لكن عام 1968 عاش الفلسطينيون فيه وفق تدمري، فلم تهنأ بخاناتها الأثرية، حيث بقي المهجّرون أكثر من 50 عاماً في الخان وخرجوا بعد مشروع “الارث الثقافي”، وهي المعضلة عينها التي نراها في خان التماثيلي في الميناء حتّى اللحظة بلا بديل.

البلدية

مع انخفاض الميزانية، تقف البلدية عاجزة أمام هذا الملف الذي تكتفي فيه بتوجيه إنذارات إلى المالكين مراراً وتكراراً، ويؤكّد تدمري أنّ “أيّ مبنى مهدّد يُوجّه إليه من 10 إلى 20 إنذاراً، فالبلدية تتدخل في حال خطر سقوط يُهدّد السلامة العامّة وفق القوانين لا بترميم المبنى الخاصّ، لكنّها تقوم بتدعيم مؤقت لتضمن تثبيته بعد إخلائه وتُحمّل تكاليف التدعيم المكلف أساساً لصاحب الملك لتسجيل اشارة دين ممتاز على الصحيفة العقارية مع 25 بالمئة جزاء ينبغي دفعها ليحصل على براءة ذمّة من أيّ مؤسسة لاحقة”.

لذا، فإنّ المدينة عاجزة عن تحمّل أيّ كارثة تُصيبها، ونستذكر تفجير المسجدين في طرابلس، حيث لا إسعافات أو سيارات كافية لنقل الشهداء أو الجرحى، ما أظهر فجوة كبيرة في إدارة كارثة حلّت علينا، وهذا ما يُنبّه على أهمّية التحرّك قبل أيّ هزة، حرب، أو عاصفة، ويتطلب إنشاء خطة، صندوق وميزانية فيها أولويات تنفذ سريعاً.

شارك المقال