عذراً سيدتي

عاصم عبد الرحمن

قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ”. ومن صور برّ السيد المسيح بوالدته في القرآن الكريم: “وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا”. كما قال النبي محمد (ص) في الأم: “إنَّ الجنة تحت رجليها”. أما في الإنجيل فقد ورد: “أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك”. وكذلك في إشعياء العهد القديم ورد: “وَتَكُونِينَ إِكْلِيلَ جَمَال بِيَدِ الرَّبِّ، وَتَاجًا مَلِكِيًّا بِكَفِّ إِلهِكِ”.

في المقابل هناك حملات دعوية مكثفة تطلقها منظمات دولية وتروج لها جمعيات محلية ترفع شعار حقوق المرأة وحرية الأمومة منها: حق الإجهاض، الأم البديلة، الأم العزباء، تجميد البويضات، رفض الإنجاب وغيرها من المصطلحات التي تدنس عظمة الأم المقدسة في السماء والأرض، فهل لهم امرأتهم ولنا امرأتنا؟

المرأة العربية كما يريدونها

يحتفل العالم في شهر آذار من كل عام في الثامن والحادي والعشرين منه بيوم المرأة العالمي وعيد الأم مع دخولنا مدار فصل الربيع وما يحمل معه من تجدد في الحياة وانبعاث للأمل، تلك هي الأم المرأة التي تبني الإنسان والمجتمع والعالم.

هذا العالم الذي يدعي الحريات العامة وحقوق الإنسان والديموقراطية التي تتيح له تصنيف الشعوب والمجتمعات وفق معايير تعاني الترهل النفسي والسذاجة الفكرية، ذلك أنَّ الغرب يصوّر المرأة العربية وهي تضع سلة قش فوق رأسها بحثاً عن قوت عائلتها، وأخرى تحمل جرة فخار لإحضار الماء وهي عاجزة تتناقلها بين يديها متعبة، متناسياً هذا الغرب نفسه أن سياساته الاستعمارية وخططه التسلطية ومشاريعه الاستغلالية هي مَنْ أوقعت المرأة العربية في خنادق الحاجة والعوز وأضاعتها في سراديب القهر واليأس.

لعلَّ الإنزال الغذائي الذي نفذته القوى الغربية في الأجواء الفلسطينية وما دفع بالأمهات الفلسطينيات إلى الجري خلف حفنة من طحين في محاولة منهن لإنقاذ عائلاتهن من الموت جوعاً، إحدى أبرز الصور التي يحلو لتلك القوى ترسيخها في الأذهان والقول للعالم إن تلك النساء لا يصلحن للحياة.

كما يحلو للإعلام الغربي الاحتفاء بامرأة محجبة هاربة من بيت الظلم والتعسف إلى كوكب الحرية ذات المفهوم الخاطئ. هو نفسه الاعلام يروّج للزوجة الخاضعة لحكم تعدد الزوجات وفق الشريعة الاسلامية وكأنها تسعى خلف رحلة جنسية وحسب، حال رُوّج لها في زمن “داعش” حيث صورت المرأة كانتحارية تقوم بتفجير عبوات شهواتها المكبوتة التي تختلج في صدرها خلف نقاب رُميَ بتهمة الإرهاب.

وفيما لا تزال أسطوانة المساواة بين المرأة والرجل قيد التشغيل، يستمر العالم الغربي المدافع عن الحقوق والحريات في نشر حكايات إخضاع المرأة العربية لهيمنة ذكورية تحول دون تمكنها من التعلم والعمل والمشاركة في مجالات الحياة كافة من منطلق ديني شرقي يمنع بناء النصف الآخر من المجتمع، وذلك على الرغم من بروز سيدات رائدات عربيات شرقيات ومسلمات هنَّ في الوقت نفسه أمهات ناجحات في مجالات عديدة أبرزهنَّ: أمل كلوني، هدى قطان، مريم الخواجة، فتيحة بن سليمان، مها الريامية، حصة الفلاحي، رئيفة أبو خزام، عائشة الخوري، أمينة البش، سارة السقا، حنان عشراوي، عزيزة سبيتي، الملكة رانيا، هدى مهدي صالح، الشيخة موزا، بهية الحريري، مهسا أميني، مي شدياق، جورجينا رزق، كارول سماحة، سيرين عبد النور، ماغي بو غصن وغيرهن الكثيرات من النساء والأمهات اللواتي يشغلن مراكز صناعة القرار ويشكلن مصدراً للإلهام والتأثير من حولهن.

المرأة الأنثى كما يرونها

مما لا شك فيه أنَّ المرأة الغربية ناجحة بالقدر الذي فُتحت فيه الامكانات أمامها، فاستطاعت الوصول إلى أعلى مراكز السلطة وصناعة القرار في العالم أبرزهن: انجيلا ميركل، كريستين لاغارد، كامالا هاريس وغيرهن بالإضافة إلى نساء كثيرات صنعن الحدث في مجالات عديدة وكنَّ مصدر إلهام للنساء والرجال على السواء من أجل الطموح والنجاح والتميز.

لكنَّ هذا الغرب الذي يرسم صورة النجاح للمرأة العالمية هو نفسه يسيء اليها بأبشع صور الإساءة، ذلك أنه يسخف مشاعر الأمومة لدى المرأة عبر تشجيعها على عدم الإنجاب من أجل العمل أو تأجيل الإنجاب حتى سن متأخرة من خلال تجميد بويضاتها، وما برز في الآونة الأخيرة هو المتاجرة بنعمة الأمومة وتسييب مفاهيمها نحو السوق التجارية عبر استئجار أرحام نساء أخريات لإنجاب الأطفال أو ما يعرف بالأم البديلة بغية الحفاظ على أجسادهن في معظم الحالات المسجلة وليس لضرورات صحية، التشجيع على التبني عوض الإنجاب ما يمهد لبناء عائلة تحمل في طياتها عوامل تفككها نتيجة برودة القرابة التي تجمع في ما بينها.

من مظاهر تسليع المرأة واعتبارها مجرد “صندوق الفرجة” انتخاب متحولين جنسياً ملكات للجمال وتمثيل المرأة عبر المنصات الجمالية العالمية كملكة جمال هولندا لعام 2023 وملكة جمال البرتغال لعام 2023 وملكة جمال نيوزيلندا فليبينية الأصل لعام 2020 وملكة جمال إسبانيا لعام 2018.

صورة أخرى تعتبر الأكثر وحشية عن المرأة التي يتباهى الغرب بصناعتها ويسعى إلى تصدير تجربتها، فمن منا لا يذكر الجندية الأميركية ليندي إنغلاند المتورطة في ممارسة أعتى مظاهر التعذيب والإذلال والوحشية بحق السجناء العراقيين أو ما عرف بفضيحة سجن أبو غريب عام 2004.

جينا هاسبل أول امرأة تتولى قيادة وكالة المخابرات المركزية الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ارتبط اسمها بإدارة السجون السرية التي تعرض فيها المعتقلون لعمليات تعذيب شديدة القسوة، وعرفت تلك السجون بـ “الحفر السوداء”، وكأن هناك رسالة يراد لها أن تصل إلى حيث يجب بأن وصول المرأة إلى السلطة يوجب تجردها من الأنوثة وتالياً من إنسانيتها التي خصها الله بها.

يقول الشاعر حافظ ابراهيم: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق. تلك هي المرأة، الأم، الأنثى، نصف المجتمع وصانعة النصف الآخر. اختارها الله سيدة بين عباده ومنحها قلباً تنشر من خلاله حبها بلا مقابل فتبني ما يدمره البشر، أما صنّاع السياسات العالمية المختبئون خلف رفاه الإنسان ونموه، فقد أرادوها وسيلة قبيحة لإنجاز غايات أكثر قبحاً وهاهم يبيعونها أوهام الاحتفال بيومها وعيدها بازدواجية صارخة وكأن المرأة العربية ليست من صنف النساء المحتفى بهنَّ.

ماذا عن المرأة الفلسطينية التي قُتل أبناؤها، المرأة اللبنانية التي هاجر أشقاؤها، المرأة السورية التي اختفت عائلتها، المرأة العراقية التي فقدت زوجها وغيرهن من النساء اللواتي يرزحن تحت ركام المعاناة والقهر؟ ألسنَ معنياتٍ بيوم المرأة وعيد الأم؟ هنَّ أنفسهنَّ قال الرسول الكريم (ص) عنهنَّ: “واستوصوا بالنساء خيرا”.

شارك المقال