مسرحية “ترانزيت طرابلس”: حقيقة موحشة وأزمة أزلية في مرسيليا لبنان!

إسراء ديب
إسراء ديب

عكست مسرحية “ترانزيت طرابلس” الواقع المرير والمأساة القاسية التي يُواجهها الانسان في بلادنا (خصوصاً اللاجئ السوري في الفترة الأخيرة) والذي رزح تحت وطأة أزمات معيشية ووطنية سلبت منه كرامته وحقوقه الانسانية، ودفعته إلى اتخاذ قرار يُجبره على التخلّي عن كلّ شيء بحثاً عن “فتات” عزّة نفسه وعنفوانه، وذلك عبر اتخاذه قرار الهجرة الذي لم يكن سهلاً على أحد يوماً، لا سيما حينما يكون مجبراً على اختيار قرار الهروب من الحرب أو من نار العنصرية ليصل إلى برّ الأمان والنجاة.

تُترجم هذه المسرحية (التي عُرضت في طرابلس سابقاً وتحديداً في المسرح العائم في معرض رشيد كرامي الدّولي، كما عرضت في مناطق شمالية مختلفة وفي العاصمة بيروت)، حال الشعوب المنكسرة التي رغبت (مرغمة أم لا)، في الابتعاد عن جحيم التسلّط “الديكتاتوري” في البلاد العربية، وفي السعي إلى الخروج من الدّمار والموت “الداخلي” أيّ الروحي، إلى موت آخر محتّم كان بحث فيه المواطن عن نفسه، لكنّه لم يجدها، أو وجد صعوبة في البحث عنها بعد الهروب، لا سيما وأنّ قرار الفرار من “جهنم” الاضطّهاد لصون الكرامة لا يُعدّ أمراً اعتباطياً ولا يُمكن أنْ يكون مقبولاً في الكثير من المجتمعات.

المسرحية التي اقتبست من رواية صدرت عام 1944 من “رحم” معاناة مؤلّفتها، بعنوان “ترانزيت” للكاتبة الألمانية آنا سيغرز (1900 – 1983)، استوحيت من تجربتها الشخصية ومن كيفية فرارها من النازيين عام 1941 عبر مدينة مرسيليا الفرنسية نحو القارة الأميركية وتحديداً إلى المكسيك، حيث تلتقي في فرنسا، بكلّ من أجبر على الفرار مثلها أيضاً، وبكلّ من تعلّقت حياتهم بتأشيرة الدّخول إلى الدّولة “المختارة”، وهي حال إنسانية يُعيدها التاريخ في كلّ مرّة ويُواجهها الكثير من النّاس خصوصاً السوريون الذين هربوا من نار الحرب إلى لبنان، ومن لبنان (الذي واجهوا فيه الفقر والعنصرية أحياناً) عبر شواطئه لا سيما الطرابلسية والشمالية منها، إلى الدّول الأوروبية وارتبطت نجاتهم بتأشيرة دخول أو بقارب يشهد على أرواح معذّبة لم تصل إلى برّ أمانها أحياناً، بل وصلت إلى “بارئها” ليكون هروبها من الموت إلى الموت.

العمل الذي أخرجته كارولين حاتم، كان قُدّم على خشبة مسرح المدينة (بيروت – الحمرا)، ولاقى استحساناً فنّياً كبيراً خصوصاً في عاصمة الشمال التي عرفت تماماً ثمن هذا الوجع الذي يوحي به الممثل جوزف عقيقي الذي امتزج أداؤه مع تأليف موسيقيّ من أداء ربيع جبيلي، إذْ أرغمت هذه الموسيقى التي أضافت إلى المسرحية، عقيقي على “التمايل” مع كلّ ألم يصدر عن شخصية واحدة لعبت أدواراً صعبة واجهت الأمرّين.

وللحديث عن العمل المقتبس بعد انتهاء عرضه اليوم (الأحد)، تُؤكّد المخرجة كارولين حاتم أنّ الاقتباس لم يكن صعباً، بل تضمّن الكثير من الحماسة والبديهية، نظراً الى تشابه الأحداث والقساوة اليوم مع ما عاشته الكاتبة “الموهوبة” في الأربعينيات، بحيث تكمن نقطة التشابه عند فكرة التمسّك بالقيم والمبادئ، وذلك حسب ما تقول لـ “لبنان الكبير”، موضحة أن “الصعوبة لا تكمن في الإسقاط، بل في كيفية تحويل الرواية الى مسرحية، فصحيح أنّني أدرك تماماً حجم القساوة التي يُدركها السوريون اليوم، لكنّ الأصعب هو رصد الأولويات وضبط إيقاع المسرحية مع الوسائط الموجودة أيّ الموسيقى والفيديوهات”.

وإذْ تُشدّد على أنّ المسرحية تتحدّث عن حقوق الانسان وأهمّية حفظ كرامته خصوصاً حينما يُجبر على مغادرة بلده، تُشير إلى أنّ العرض القائم على نوع المونولوج، يُظهر ذاتية وجوهر الشاب المميّز، الفكاهي، الذكي، الأنيق، وكيفية تجاوزه الصعوبات عند الانتقال من حال إلى حال أيضاً، لا سيما حينما يضربه “الدهر” حرفياً، فظهر ذلك مثلاً حينما قرّر بعض المناطق في لبنان حظر تجوّل السوريين بعد السادسة مساءً. وتقول: “تمكّن الممثل عقيقي من إبراز جوانب الشخصية بامتياز بكلّ ما أوتي من موهبة، وتمكّن من إيصال الرسالة إلى المشاهدين الذين علموا أنّ الصعوبات موجودة بالتأكيد، لكن الأهمّ يكمن في إظهار كيفية مواجهتها وضمن أيّ حكمة أو عقلية راشدة لا تمس كرامته، فيصل إلى حال الترانزيت التي نهرب معها من الخضوع ومن كلّ شيء”.

وتمكّن عقيقي من تسطير الشخصية وعكسها بصعوباتها وبمشاعرها بسهولة مع قدرته على الانتقال بين اللهجتين اللبنانية والسورية التي تمكّن منها، وذلك وفق ما تُؤكّد المخرجة التي شبّهت مسرحيتها بـ “الحكواتي” ووازنت بين الدراما والخفّة، سعياً إلى “إحياء الوجع من جديد”، لكن بخفّة كافية تُؤكّد أنّ الحياة مستمرّة، “فحين يُغرم هذا الشاب بفتاة في الشارع، هنا تظهر الحياة والحيوية مع الموسيقى التي تدعم الفرح بكلّ طاقة، كما يظهر رمز العصفور في العرض أيضاً للإشارة إلى الحرية والخفّة والانتقال السريع، وغيرها من المؤشرات التي أردنا نقل الصورة من خلالها”.

وعن طرابلس التي تحبّ، تلفت حاتم إلى أنّ الطرابلسيين كانوا أحبّوا العرض للغاية بحيث أظهروا دعماً كبيراً ومختلفاً لا نصادفه في أيّ منطقة أخرى، مؤكدة رضاها التامّ عن الأصداء التي صدرت لمسرحية “دسمة” ولأداء استثنائي يُرافقه ملّحن مجتهد، مع العلم “أنّني كنت أتمنّى أنْ تنتقل هذه المسرحية بين منطقة وأخرى”. وتضيف: “سألت العديد من المواطنين عن العرض في طرابلس وسمعت منهم قصصاً كثيرة، ففي هذه المدينة نجد الكثير من الأسرار”. وتوضح أنّ مشهدية المدينة في المسرحية تظهر عبر البحر كرمز للهجرة غير الشرعية التي باتت منتشرة بصورة كبيرة على الرّغم من المخاطر التي لا يُحمد عقباها، كما ظهرت المدينة أيضاً في فيديوهات تمّ تصويرها مع الناس وبينهم.

وتختم قائلة: “إنّ الرواية تصف مرسيليا الحرّة، وأنا رأيت أنّ طرابلس تُوازي مرسيليا أيضاً، ففيها الحياة وفيها البحر، وفيها سيُغرم البطل بامرأة يُلاحقها على خشبة المسرح وسيُتابعها من مكان إلى آخر كالأسواق لتُحيي فيه المشاعر والوجدانيات. والبطل عند وصوله في المسرحية إلى طرابلس، ستظهر المدينة ببحرها، فيقول: أنا بكره البحر عنده وحشة، لكن في الوقت عينه يُفكّر أنّ البحر يستقبل كلّ النّاس بعد كلّ حرب أو زلزال، ليفهم فيما بعد أنّ البحر نفسه يُعطيه السلام والهدوء أيضاً”.

شارك المقال