“وداع” طرابلس: نفحة إيمانية موروثة في “مدينة رمضان”

إسراء ديب
إسراء ديب

يعجز الطرابلسيّون عن التخلّي عن طقوسهم الدّينية لا سيما الرمضانية منها، فلا تأتي تسمية طرابلس بـ “مدينة رمضان” عبثاً، إذْ تُبدي عاماً بعد عام، رغبة في التمسّك بعاداتها الموروثة التي لا تعرف الاندثار على الرّغم من التقدّم التكنولوجي وارتفاع عدد السكان فيها، لتتحوّل هذه العادات من “فولكلور” ثقافيّ- تاريخيّ إلى عادة روحانية بحتة وسياحية جاذبة.

ومع قرب انتهاء شهر رمضان المبارك، اعتاد أهالي المدينة استقبال فرق “الوداع” التي تجول ابتداءً من العشر الأواخر في أحيائها، شوارعها وأزقّتها لتُطلق المدائح النبوية والأناشيد، بحيث ينتظرها المواطنون بفارغ الصبر، وذلك على الرّغم من “تذمر” بعضهم من كثرة الفرق غير المنظمة، التي يُديرها مجهولون بفئات عمرية صغيرة أو متوسّطة باتت تجول في توقيت مبكر وغير معتاد (قد يبدأ قبل منتصف الشهر)، وفي وقتٍ كان حفظ فيه أهالي طرابلس “عن ظهر قلب”، أسماء أبرز العائلات التي عُرفت تاريخياً بتوارثها هذه العادة “المباركة” شعبياً ودينياً مع امتلاكها المعدّات المطلوبة، منها: القدوسي، الزاهد، اللوزي والغندور…

وللحديث عن “وداع” رمضان وما يُرافقه من طقوس، يُؤكّد رئيس لجنة الآثار والسياحة والتراث في بلدية طرابلس البروفيسور خالد تدمري لـ “لبنان الكبير”، أنّ الوداع بات أمراً روحانياً وإيمانياً بالدرجة الأولى، قبل أن يكون قضية فولكلورية أو صوفية معتمدة في طرابلس.

تاريخياً، يُؤكّد تدمري أنّ مدينة طرابلس تُعطي أولوية كبيرة لشهر رمضان وطقوسه، ويقول: “الشهر الفضيل وعلى مرّ القرون والتاريخ الاسلامي، كان يُحييه المؤمنون في المساجد، حيث يبدأ المؤذنون، القرّاء والمشايخ بإطلاق خطابات منذ منتصف الشهر، باستخدامهم عبارات، أناشيد أو أدعية حزينة فيها فقدان ووحشة لرمضان، إذْ تبدأ الحسرات على قرب انتهائه سريعاً. فبعد اعتيادهم الصلاة في المساجد بإقامة سنّة التراويح خصوصاً مع المؤذنين والمنشدين، تتغيّر نبرتهم باتجاه الحزن على انقضاء الشهر، فيُطلقون بأصواتهم الشجية الأناشيد الحزينة، وعُرفت مدينة حمص السورية والقريبة من طرابلس بهذه العادة، وكانت تحدث أيضاً في بعض مساجدنا في المدينة”.

وفي طرابلس، يُضيف: “تتكوّن هذه الفرق من مجموعة من المسحراتية الذين يقضون 30 يوماً بجولاتهم في المدينة ويستمرّون في قيامهم بواجبهم عبر إيقاظ المؤمنين بدافع السحور وعدم تفويت هذا التوقيت المبارك، فالمسحراتي الذي حفظ أسماء العائلات في كلّ زقاق في المدينة، وهو يجول ليذكر الرسول عليه الصلاة والسلام مبتهلاً ورافعاً صوته مع الطبل يومياً، سيقوم أيضاً بتوديع رمضان بطريقة مختلفة ومميّزة”.

وفي وقتٍ كانت تُعرف فيه طرابلس بمدينة العلم والعلماء وبتميّزها لكونها محافظة إيمانياً ودينياً، عُرفت أيضاً بأنّها مركز للصوفية وطرقها التي شجّعتها ودعمتها الدّولة العثمانية، “حيث نجد في طرابلس تكايا تعود إلى طرق صوفية عدّة من المولوية، القادرية، الجيلانية، النقشبندية، والرفاعية وغيرها، وبالتالي إنّ كثرة هذه الطرق الصوفية دفعت عدداً من المتطوّعين من المسحراتيين وكلّهم من الدروايش والمتزهدين، إلى القيام بهذه الخطوة لوجه الله تعالى، لذلك يتجمّع المسحراتيون في العشر الأواخر على شكل مجموعات، لكن هذه المرّة لا بالطبول فحسب، بل مع الصنوج والدفوف، فيتجوّلون بعد صلاة التراويح وقبل محاولتهم إيقاظ النّاس للسحور أيّ استغلالاً لهذه الفرصة، ليقصدوا الأحياء وأبواب المنازل ويُنشدوا وداعاً، فيحصلوا على ما يتكرّم به المؤمنون من زكاة أو صدقات مقابل تعبهم لشهر كامل”.

ولا يغفل تدمري عن قلق يشعر به الطرابلسيون من تراجع هذه العادّة أو توقّفها مع توسع المدينة وتطوّرها، إلا أنّه يقول: “شهدنا خلال السنوات الماضية، عودة واضحة لها وتمسّكاً أكبر بها، لأنّها تحوّلت في جزء منها إلى أمر تراثي وسياحي يجذب الوافدين والأجيال الجديدة لتتعلّق بكلّ ما هو تراثيّ، وما شهدناه من حركة لافتة ومبالغة في الأعوام السابقة، من إقامة أنشطة في الشوارع، الحدائق والتزيين مع ما تُقدّمه عدد من الأندية والمطاعم عبر أزياء وزينة فولكلورية، خير دليل على أنّ هذه العادة، أخذت ربما منحى سياحياً وترفيهياً أكثر من دينيّ، لكنّ الدليل يُثبت في الوقت عينه، استمرارية العادات الصوفية والدينية التي عرفتها طرابلس، لذلك نقول ألّا خوف على هذه العادات”.

وإذْ يُشير إلى تراجع عدد فرق الوداع أخيراً، يُشدّد على وجود فوضى تنظيمية فيها، موضحاً “أننا نرصد أعداداً كبيرة من الفرق لا تنطلق من المسحراتيين، بل نرى مجموعات تتجوّل فجأة لوداع رمضان، وهو أمر اعتباطي وفطري نظراً الى العجز عن إمكان تنظيم هذه النشاطات، لكنّ الطرابلسيين خصوصاً في المناطق القديمة يعرفون الفرق الأساسية جيّداً، ويُدركون تلك التي تقوم بواجباتها والتي لديها تكايا تُحيي على مدار العام، موالد وحلقات ذكر تبقى من أهمّ سمات هذا الشهر ضمن مدينة لا تزال تُحافظ على عادة إيمانية موروثة عبر العصور في رحاب مدينتها القديمة لتصل إلى أحيائها الجديدة أخيراً”.

شارك المقال