نكتة سوداء

علي نون
علي نون

صارت نكتة سوداء لا تسرّ خاطر أحد، تلك الفضيحة المسماة انتخابات رئاسية في سوريا بشار الأسد… وهي على سماجتها تضيف إلى مخزون التواريخ السورية (أي غير المسبوقة) شيئًا من التهتك المصاحب لفحوى الخطاب والأداء البعثيين الأسديين، منذ إلقاء القبض على الكيان السوري وأخذ أهله رهائن بصفة رعايا في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي.
والتواريخ السورية في دولة الأسد كثيرة ومتعددة، أبرزها وأكثرها حضوراً هو الأساس المشابه لصنوه في بعث العراق وصدّامه، أي اختصار الدولة بكل أحوالها وأدوارها بالحزب. واختصار الحزب بالطغمة الأمنية العسكرية بداية، ثم اختصار الدولة والحزب والطغمة بالعائلة وحدها، ثم اختصار ذلك النسيج برمته بشخص القائد الخالد والواحد… من ذلك المخزون تناسلت بضاعة الهرطقات والمسخرات والتوريات، ونمت بإصرار وعناد لا يأبه روادهما وأبطالهما بأي سؤال أو جدال أو خفر أو حياء أو أخذ بالاعتبار شيئًا يقال له في عوالم الحاضر غرباً وشرقاً “رأياً عاماً” أو أي شيء له صلة ما بالآخر ورأيه.
في دولة التهتك والسفور هذه تعطى التوريات ريادة وسلطاناً، فيقال إن هناك أشياء دولتية (مهضومة!) تشبه مثيلاتها في معظم دول الأرض: برلمان! وحكومة! وقضاء! ووزارات! ومحاكم! ومؤسسات…الخ وصولاً إلى زبدة الهذر في دولة الأسد المتمثلة بمثلبتي الانتخابات أولاً والرئاسية ثانياً! ومع ذلك فإن التجربة السورية ليست وليدة نتاجات محلية برغم أشياء البعث وأصحابه، وأولها العروبة والوحدة والحرية ثم درة التاج المرتجى في البنيان النظامي: الاشتراكية بقضها وقضيضها ودفعة واحدة من دون مرحليات ودورات الزمان والخطط الخمسية والعشرية ومن دون (طبعاً) انتظار تعديل طبيعة الإنتاج بعد تغيير أدوات ذلك الإنتاج !

وعلى منوال الأصل في دول المنظومة الاشتراكية العظمى، يغزل نسيج المصطلحات المحاكية للموجود في دول الضد، أدلجة وأنظمة… ويشطح النفاق المؤدلج بفخامة: دولة الحزب الواحد تلهج بالحرية! ودولة الاستبداد البوليسي والأمني تلهج بالديمقراطية! ودولة الأجهزة القمعية والاستخباراتية تلهج بالمؤسسات! ودولة الحزب المرصوص تلهج بالانتخابات! ودولة التعليمة السافرة والآمرة تلهج بالإعلام! ودولة التقنين والإفقار تلهج بالرخاء! ودولة العوالم السفلية والأقبية ومعسكرات الاعتقال والتعذيب تلهج بالسعادة! ودولة الزعيم والقائد تلهج بالمجالس البرلمانية! وتعطى هذه توصيفات جليلة كأن تكون مجلساً للشعب أو للأمة أو للشورى! ثم يصار إلى شحذ الهمم على مدار الأيام والأزمان لمواجهة عدو دائم الوجود والحضور والاستعداد للزحف والقضاء على مكتسبات الثورة وإنجازاتها! ولا بأس بتعديل صفة هذا العدو وطبيعته، حسب مقتضيات المرحلة وشروطها بحيث يكون هذا العدو تارة طبقياً رجعياً، وتارة مرتداً زنديقا، وتارة أجنبياً طامعاً بالخيرات والنتاجات الوفيرات كما بالثروات الظاهرات والمخفيات! عدا بطبيعة الحال في سوريا ودول الطوق، عن المحتل الذي لم يتوان في ظلال دولة البعث عن استئناف احتلاله لما بقي بعد عام النكبة.
في دولة التهتك والعبث هذه، لا يتورع كبير السلطة وصاحبها عن الفتك التهكمي بقيم العالم الآخر، الطبيعي والبشري والإنساني والمحتكم إلى العدل والحرية وتداول السلطة والاستناد إلى صندوق الانتخابات في ذلك وليس إلى صندوق الرصاص…كي يقول إنه هنا بأصوات ناخبين وليس بأصوات الصواريخ! وهو الذي يريد من ذلك رمي النفاق بالنفاق! ومعاملة السوريين الضحايا بالمنطق نفسه، الذي سمح له أولاً وأساساً بأن يقتلهم ويهجرهم ويخرب بيوتهم وأرزاقهم من دون خشية من حساب خارجي فعلي! ومن دون قلق من تدبير زجري دولي أخير… صاحب التهتك الذي أمعن في وظيفته يظهر أكثر حنكة من نظيره الآفل في البعث العراقي وأكثر استعداداً لتثبيت وظيفته الكبرى بحماية مصالح إسرائيل ومن يعنيهم أمرها حتى لو لم يبق في سوريا حجر على حجر وبشر قرب بشر… وحتى لو لم يعد لديه فعلياً وعملياً ما يعينه على أداء تلك الوظيفة، وحتى لو تقلصت سلطته إلى حدود مكان وجوده الجسدي الحسي المباشر! يعرف أنه يتهتك، ويعرف أنهم في الغرب أساساً، يعرفون أنه يتهتك! لكنه مثلهم في اعتماد القياسات المناسبة للحكم على الديكتاتور المستبد ومنتهك حقوق الإنسان: يأخذ راحته في الفتك والاستبداد بالسوريين لأنهم في عرفه كما في أعراف دول الرقابة والقرار ومأموري شرطة الأخلاق، لا يستحقون وهم بالملايين، ما يستحقه منشق أو معارض روسي أو بيلاروسي أو صيني واحد! …يلعب معهم بأدواتهم لكن على طريقته، ويعرف سلفاً أن من لم يسمح بمحاسبته على قتله نحو مليون مواطن وتهجير عشرة ملايين واستخدام الأسلحة المحرمة بكل مشتقاتها الكيماوية والسميَة والغازّية، لن يتوقف قليلاً أو كثيراً عند مهزلة الانتخابات وإعلانه الفوز بنسبة ٩٥ في المئة من أصوات الناخبين… يستطيع أن “يجادل ” بأن هذه النسبة تبقى، على الأقل ، دون المئة بالمئة التي يستحقها أولا ًوالتي حصل عليها صدام حسين في زمانه ثانياً !

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً