تحالف “الازدهار” وحسابات الانفجار (٢)… الأهمية الاستراتيجية للممر المائي الذي تصارعت عليه الدول العظمى

زياد سامي عيتاني

تكثيف الحوثيين في الآونة الأخيرة هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة التي بدأوها الشهر الماضي على السفن الدولية التي تمر عبر البحر الأحمر، رداً على هجوم إسرائيل على قطاع غزة، أجبر شركات الشحن على تغيير مسار الشحنات التي تمر عادة عبر قناة السويس، لتدور حول رأس الرجاء الصالح، ما زاد من الوقت والتكاليف. وكان الحوثيون قد هددوا سابقاً باستهداف جميع أنواع السفن التي تشغّلها شركات إسرائيلية، أو تعود ملكيتها اليها، أو تلك التي تحمل العلم الاسرائيلي، وحذروا شركات الشحن الدولية من التعامل مع الموانئ الاسرائيلية، كما أطلقوا صواريخ على إسرائيل على بعد أكثر من 1000 ميل. وقد ربط الحوثيون وقف العمليات ضد تلك السفن، بإدخال الغذاء والدواء والمساعدات الى غزة المحاصرة.

وتوقعت مصادر في قطاع الملاحة الدولية تأثير أزمة الملاحة في البحر الأحمر على التجارة العالمية في حال إستمرارها، مؤكدة أن أقساط التأمين والمسارات الأطول ستكون من بين الأعباء الفورية. أما صحيفة “الايكونوميست” البريطانية فنبهت على أن “صناعة الشحن العالمية تتحول إلى وضع الطوارئ” جراء الهجمات الحوثية، مشيرة إلى أن “هذه الهجمات ستكون لها تداعيات خطيرة، أهمها ما يتعلق بالتأثيرات على الاقتصاد العالمي وعلى دول إقليمة، ومخاطر التصعيد العسكري في الشرق الأوسط”. فحتى الآن شنت جماعة الحوثي في اليمن المدعومة من إيران ما لا يقل عن 100 هجوم صاروخي وعشرات الطائرات المسيرة تجاه السفن في البحر الأحمر.

لذلك، أطلقت الولايات المتحدة عملية “حارس الازدهار” مؤخراً، قائلة إن أكثر من 12 دولة وافقت على المشاركة في جهد سيشمل دوريات مشتركة في مياه البحر الأحمر بالقرب من اليمن. وتمتلك واشنطن ما لا يقل عن ثلاث مدمرات متمركزة في البحر الأحمر، فيما تشارك عدة دول بسفن حربية في عملية “حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة. فما الأهمية الاستراتيجية التي تجعل البحر الأحمر في عين العاصفة منذ “طوفان الأقصى”، من كل الدول الكبرى والاقليمية، متناسية مجازر الابادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني؟

يستمد البحر الأحمر أهميته الإستراتيجية والجيوسياسية من موقعه الجغرافي الفريد، بحيث يصفه مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو برجينسكي بأنه يقع في قلب قوس الأزمات أو عدم الاستقرار، الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الافريقي ومنطقة المحيط الهندي، كما أنه يتاخم منابع النفط الرئيسة في العالم. ويعدّ البحر الأحمر واحداً من أهم طرق الملاحة الرئيسة في العالم، فهو يربط بين 3 قارات: إفريقيا وآسيا وأوروبا. وتمثل قناة السويس في شماله شرياناً ملاحياً له أهمية إستراتيجية دولية مهمة، إذ تسلك القناة نحو 21 ألف سفينة سنوياً في طريقها بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، ويمرّ فيها يومياً نحو 30% من حاويات الشحن في العالم، ونحو 10% من تجارة النفط، و8% من تجارة الغاز المسال، ونحو 12% من إجمالي التجارة العالمية من جميع السلع.

وعلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر في إتجاه المحيط الهندي وبحر العرب، يقع مضيق باب المندب، على حدود 3 دول: اليمن وجيبوتي وإريتريا، ويفصل عملياً بين قارتي آسيا وإفريقيا، ويستمد أهميته الإستراتيجية كونه المنفذ الوحيد الذي يتحكم تماماً في البحر الأحمر من الناحيتين العسكرية والتجارية. يسمح عرض المضيق وعمقه بمرور ناقلات النفط الضخمة وسفن الشحن الكبيرة في الاتجاهين، وهو ما سهل إنسيابية الحركة التجارية. وحسب موقع “vessel tracking” تمر عبره 22 ألف قطعة بحرية سنوياً بمعدل 60 سفينة يومياً، سواء في إتجاه شمال البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا. ويتمتع المضيق بأهمية عسكرية وأمنية كبيرة، ويسمح عرضه ومساحته بإمكان التحكم فيه عسكرياً بالغواصات أو المدمرات أو الأسلحة الأخرى كالصواريخ والمسيرات أو تفخيخه بالألغام البحرية، ومن ثم قطع الملاحة فيه وإرباكها. وتكشف إدارة معلومات الطاقة أن 12 بالمئة من إجمالي النفط المنقول بحراً في النصف الأول من 2023 وكذلك ثمانية بالمئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال مرت من باب المندب وخط أنابيب سوميد وقناة السويس.

ونظراً الى هذه الأهمية فقد حرصت القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا والاتحاد السوفياتي السابق على أن تكون لها مواطئ أقدام ومناطق نفوذ فيه. وقد برزت أهمية البحر الأحمر بشدة إبان أوقات الحروب والأزمات، كما اتضح ذلك في حرب (أكتوبر) تشرين الأول 1973، حينما أغلقت اليمن مضيق باب المندب أمام الملاحة الاسرائيلية بالتعاون مع مصر. وبرزت أهميته كذلك إبان حرب الخليج الثانية 1991 وأثناء حشد القوى التي هاجمت العراق عام 2003، بحيث مررت عبره مختلف أنواع العتاد الحربي. ونظراً الى أهمية البحر الأحمر، حاولت الدول العربية خصوصاً المطلة عليه، أن يكون لها دور في حفظ أمنه، فظهرت أفكار ذات صلة صادرة عن جامعة الدول العربية أواخر السبعينيات، بحيث طرحت فكرة تشكيل قوة أمن عربية دائمة لمواجهة الأخطار التي تهدد أمن البحر الأحمر تكون تابعة مباشرة للأمانة العسكرية في جامعة الدول العربية، لكن هذه الأفكار لم تر النور لأسباب قطرية وإقليمية ودولية!

إقرأ ايضاً:

  1. تحالف “الازدهار” وحسابات الانفجار (١)… زيادة إحتمالات نشوب حرب ملاحية
  2. تحالف “الازدهار” وحسابات الانفجار (٢)… الأهمية الاستراتيجية للممر المائي الذي تصارعت عليه الدول العظمى
شارك المقال